نتائج المشاركـة التّونسية في حرب القــرم

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0
أ. فاطمـة يتــوجي

 

إثر انتهاء حرب القرم وانهزام روسيا أمام الدّولة العليّة وحلفائها أُجبرت على الخضوع للصّلح وتوقيعها معاهدة سلم بتاريخ 30 مارس 1856م،  وكانت هذه المعاهدة بمثابة الدّواء المرّ باعتبار ما ألحقته بها من إذلال. فقد كانت  تطمح  إلى السّيطرة على مناطق  في العمق العثماني، لكن بموجب هذه المعاهدة  تنازلت على جزء من مقاطعة ”صربيا” و”مولدافيا” وقبلت بحريّة الملاحة على نهر ”الدانوب” وحياد البحر الأسود.

 

عادت الجيوش التونسيّة من إسطنبول وتمّ توديعها من قبل السّلطان العثماني، وكان ذلك في شهر سبتمبر 1856م وبالتّحديد بشاطئ ”العبدليّة” حيث استقبلهم محمد باي نفسُه، واستقبل في الوقت نفسه رسول الدّولة العثمانيّة إليه في موكب حافل، وقد حمل له نيشان افتخار مرصّعا هديّةً من السّلطان”[1].

في هذا المقال أسعى إلى بيان هذه المشاركة من خلال ما عثرت عليه  في الأرشيفين التّونسي والعثماني بإسطنبول من وثائق تمثلت في فرمانات[2] ومراسلات إلى الإيالة التونسيّة صدرت من شخصيات سياسيّة وعسكريّة ذات موقع كبير في صنع القرار في الدّولة العثمانيّة. وسأحاول التّعليق على بعض المعلومات والأخبار، وذلك بهدف قراءة الوثائق وتوضيح أبعادها. وقد تجنّبت إدخال أيّ تغيير في شكل المراسلات، وأبقيت على كلّ كلمة كما وردت بأخطائها وذلك لأنّ إصلاحها يفقدها صورتها التّاريخيّة التي يجب الاحتفاظ بها شكلاً ومضمونًا، وهذا ما يعطيها أهميّة، وأبقيت كذلك على التّاريخ الهجري المرقوم في آخر كلّ رسالة منها.

 

كُتبت هذه الوثائق خلال منتصف القرن التّاسع عشر ميلادي في فترة تميزّت بتحوّلات عسكريّة وسياسيّة كبيرة في البلاد التونسيّة والدّولة العلية، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، مع الإشارة إلى أنّ هذه الوثائق كُتب أغلبُها أثناء حرب القرم أو بعدها. ففي تونس نجد أنّ البلاد تعاني أوضاعًا اقتصاديّة خانقة وتمر بخطر محدق من الأطراف الخارجيّة، وخاصّة فرنسا حيث قامت باحتلال الجزائر والمغرب، وفي ظل أوضاع سياسيّة أقلّ ما يقال فيها إنّها ضبابيّة ومتذبذبة.

 

أمّا الدّولة العثمانيّة وأقاليمها الأخرى فلم تكن أوضاعها أقل سوءاً، بل رّبما كانت أحيانا أكثر تعقيدًا واضطرابًا إذ اندلعت في مساحاتها الواسعة حروب مختلفة خلال ذلك القرن. وتعد هذه الوثائق شاهد عيان على الأحداث العسكريّة والمشاركة الت                ونسيّة في حرب القرم ومواقف الدّولة العثمانيّة منها،  حيث أنها أفصحت على أعداد من التّكريمات والنياشين التي منحت للإيالة التّونسيّة تقديرًا للتّضحيات التي قدّمتها تونس للسلطنة العثمانيّة في حربها ضدّ الروس.

 

1-    نتائج المشاركة وانعكاساتها على الوضع العام في تونس

أ‌-       النتائج الإيجابيّة:

بيّنت هذه الحرب التقدّم السريع الذي حقّقه الجيش النّظامي التّونسي في مجال التنظيم والقيادة والتدريب والقدرة على قيادة عدد كبير من القوّات (حوال 10.000 جندي) خارج أرض الوطن وعلى مسافات بعيدة بواسطة النقل البحري، وجعل القوّات التونسيّة  على مقربة من مسرح العمليّـات، وذلك بتخطيط نقلها وتنظيمها وتفصيلها وتجزئتها بحسب حمولة كلّ سفينة، وتحديد أسلوب ومكان التحميل والتنزيل بالتنسيق مع الدّولة العليّة، مع القدرة على التصدّي لأيّ عوائق تعترض سبل السّفن وحمايتها ضدّ أي تهديدات بحريّة معادية.

 

أظهرت هذه الحرب الحنكة الإداريّة العسكريّة لدى ”محمد خزندار[3]”، فقد قام بترتيب كلّ الجوانب اللّوجستية  في اسطنبول قبل سفر البعثة العسكريّة التونسيّة، فقد وفرت الإيالة التّونسيّة الدعم اللوجستي للجيش لمدّة سنتين[4]. ثم إنّه من خلال هذه الحرب تبينت قدرة الجيش التّونسي على الاندماج مع قوات الحلفاء في  ميدان المعركة، والقتال معها باعتبارها جزء من فريق مشترك ومتحالف ما يدلّ على مدى قدرتها على التفاهم والتّنسيق مع قوات أجنبيّة لا تتكلّم اللغة نفسَها، وهذه أوّل مشاركة لتونس منذ الفتح الإسلامي في حرب خارج حدودها وضمن فريق مشترك يضمّ بلدان أوروبيّة مسيحيّة.[5]

 

ب‌-  النتائج السّلبيّة:

إنّ هذا النّجاح النّسبيّ في المجال العسكري لا يمكن أن يحجب عنّا النتائج السّلبيّة لهذه الحرب والتي كان لها تأثير كبير على مستقبل الجيش والبلاد. فقد أسفرت هذه الحرب عن خسائر ماديّة تكبّدتها الإيالة التّونسيّة ممّا تركها في وضع اقتصادي صعب. فقد تحملت الإيالة  نفقات باهظة لتسفير البعثة وإعالتها مدّة الحرب، وهو ما مثل ضربة قاسية بالنسبة إلى خزينة البلاد التّونسيّة. وقد كان من نتائج ذلك أن اضطرّت السلطة إلى الاقتراض ورهن مجوهرات العائلة المالكة لتوفير مستلزمات الجنود، وهو ما تسبب في حدوث ضائقة ماليّة لم تتعاف منها تونس حتى انتصاب الحماية سنة 1881م[6].

لم تتوقّف السلبيّات على الجانب الماليّ وانّما تعدّت إلى سلبيّات عسكريّة متمثّلة في خسائر بشريّة فادحة، حيث وصل عدد الجنود المرضى الذين تركوا ساحة القتال وتوجّهوا إلى تونس قبل حسم المعركة إلى 2368 وهم كالآتي:

  • 2009 من عساكر المشاة
  • 103 من عساكر الخيالة
  • 256 من عساكر الطبجيّة (المدفعيّة)

في حين بلغ عدد المتوفّين من الجنود التونسيّين 2525 فردًا وهم على التّوالي:

  • 19من عساكر الألاي الأول
  • 1305 من عساكر الألاي الثاني
  • 995 من عساكر الألاي الخامس
  • 15 من عساكر الخيّالة
  • 191 من عساكر الطبجيّة

 

ما نستنتجه من هذه الأرقام هو أنّ حصيلة المشاركة التّونسية في حرب القرم كانت كبيرة على المستويين المادي والعسكري ما أفرز عديد الإشكاليّات خصوصا في الوضع العام للبلاد في توقيت جدّ حسّاس[7]. فماهي هذه الانعكاسات على الوضع العام للبلاد في المستقبل القريب والبعيد؟ وهل سيكون لها أبعاد أخرى على مستوى العلاقات الخارجيّة والسّياسيّة للبلدين؟

 

ت‌-   انعكاسات المشاركة على الوضع العام في تونس:

لا شك أنّ لكلّ حرب تداعياتها وتأثيراتها السّلبية والإيجابيّة نتيجة ما تحمله من مخلّفات وخسائر أو نجاحات وهزائم. وحرب القرم بانتهائها كشفت عن انعكاسات كبيرة طالت الإيالة التّونسية بعد البعثة العسكرية التّي شاركت في أحداثها.

إنّ ما قدّمته البعثة التونسيّة عزّز كيان الدولة وجلب لها احترام السلطان العثماني، وذلك عكس ما كانت عليه قبل الحرب التي كانت تعتبر فترة ساءت فيها الظّنون بينهما[8]، حتى إنّه بعد انتهاء الحرب تخلّدت بذمّة الجنود التّونسيين ديون خلال وجودهم في ساحات القتال، وتعهّد أمير العساكر التّونسيّة بدفعها بعد العودة، موقّعا في ذلك حُجّتين تضمّنتا الدّيْن الذي مقداره 3.668.652 قرشا وربع قرش تركي، تنازلت الدولة العثمانيّة بعد أربع سنوات عن ذلك المبلغ وأعفى السلطان الحكومة التّونسيّة من ذلك المبلغ بموجب أمر صادر منه[9].

”وكما جاء في الأمر مقابل ما بذلته العساكر التّونسية من الحميّة وبذله الجند من الخدمات السنيّة وتميّزوا به من حسن الطويّة وبناءً على ذلك مُحيت قبونات (coupons)  المبالغ المذكورة وأرسلت حجج الدّين إلى تونس”[10].

 

وتظهر انعكاسات  الحرب السّلبية كذلك على الوضع العام في تونس من خلال مبادرة محمد باي بتسريح العساكر الذّين شاركوا في حرب القرم مباشرة إثر قدومهم من اسطنبول[11]. وكان السّبب في ذلك مطالبتهم بزيادة في أجورهم بنسبة الخمس على اختلاف درجاتهم[12]، فسارع الباي بتسريح العسكريين العائدين من الحرب المطالبين بالزيادة قصد تشتيتهم حتى لا يكون نواة تمرّد وعصيان داخل الجيش التّونسي. ونظرا إلى الظّروف الاقتصادية الصّعبة التّي كانت تشهدها البلاد اتّجه الباي إلى اتّخاذ إجراءات من أهمّها توظيف ضريبة شخصيّة سنويّة، وهو ما عُرف بالإعانة على سكّان المملكة البالغين من الذّكور.

وبالفعل شرع في استخلاص هذه الضّريبة القارّة والتّي كان مقدارها 36 ريالاً منذ شهر جويلية 1856م[13]، ورغم هذا الإجراء فإنّ الأوضاع قد ازدادت سوءا وتعكّرا في عهد خليفته محمد الصادق باي[14]، فقد اتخذ هو بدوره قرارا يعتبر كارثيّا على السّكان بمضاعفة هذه الضّريبة إلى حدود 72ريالا. وهذا الإجراء مثل شرارة التّمرد من قبل الأهالي،  حيث تحرّكت  القبائل والعروش في المناطق الدّاخلية بقيادة على بن غذاهم والذي لقّب بــ”باي الشعب”، وكانت هذه القبائل وهذه العروش تشكل مركز ثقل الجيش التّونسي.

وممّا لا شكّ فيه أنّ قرار مضاعفة “المَجبى” شمل كلّ السّكان بمن فيهم العساكر الذّين وقع تسريحهم بعد عودتهم من الحرب وهو سبب كافٍ للعصيان، وبالتّالي أصبح العصيان عامًّا وفاعلاً وأكثر خطرًا على سلطة الباي. ومما زاد الطّين بلّة توعّد البدو والمواطنين العساكر الذّين لا زالوا إلى جانب الباي بحرق أشجارهم ونهب ممتلكاتهم[15]، وهذه الأوضاع كلها لم تكن في صالح الباي ولا في صالح البلاد ككّل.

 

المـصادر والمراجع والهــوامش:

1)  بنبلغيث، أضواء على مشاركة البعثة العسكريّة التّونسيّة في حرب القرم، 1854-1856، وزارة الدّفاع الوطني، تونس 2003، ص36.

2) فرمانات: جمع فرمان ويجمع أيضا على فرامين وفرامنة، وهو الأمر السّلطاني. انظر  رينهارت بيتر آندُوزِي (المتوفى: 1300هـ)، تكملة المعاجم العربية، نقله إلى العربية وعلّق عليه: ج 1 – 8: محمَّد سَليم النعَيمي ، ج 9  -10: جمال الخياط ، وزارة الثقافة والإعلام، الجمهورية العراقية، 2000 م، ط1، ج 8، ص 61.

3)  أبو عبد الله محمد خزندار: ولد حوالي عام 1810م  بجزيرة كوس اليونانية،  وتوفي بضاحية المرسى  في 22 جوان سنة 1998م وهو مملوك من أصل يوناني. وقع أسره ثم بِيع إلى باي تونس حسين باي الثاني. حافظ لمدة خمسين سنة على خدمته لفائدة خمسة بايات، بدءًا من أحمد باي الذي سماه عام 1838م عاملا أي واليا على سوسة والمنستير، وعندما صعد محمد باي إلى العرش أرسله إلى إسطنبول للإتيان بفرمان التسمية. وفي سبتمبر 1856م  كان عاملا على قابس. وفي عام 1860 م عين في عضوية المجلس الأكبر  الذي بعث آنذاك. وفي نوفمبر  1861م م عين وزيرًا للعمالة، أي ما يوازي تقريبٍا وزير الداخلية، ثم وزيرا للحرب في ديسمبر 1862م، ثم وزيرا للبحر في سبتمبر 1865م. بعد انتصاب الحماية الفرنسية عين من جديد  على رأس الوزارة الكبرى، واستمر في منصبه حتى خريف 1882م حيث انسحب من الحياة العامة وانعزل في بالمرسى وسيدي بوسعيد. انظر Jean Ganiage, Les origines du Protectorat français en Tunisie (1861-1881), préface Khalifa Chater, BERG édition, P95.

4) محجوب السميراني، الجيش التّونسي (1831م-1881م) رافد نهضة وإصلاح، منشورات سوتيمديا، تونس، فيفري، 2017، ط1، ص 294.

5) م. ن، ص 294.

6) محجوب السميراني، الجيش التّونسي (1831م-1881م) ، ص296.

7) انظر أ.و.ت، س.ت، صندوق 183، ملف 1016، وثيقة 188.

8) بنبلغيث، أضواء على مشاركة البعثة العسكرية التونسية، ص 42.

9) م. ن ، ص38.

10) أ.و.ت، س.ت، صندوق 183، ملف 1016، وثيقة 285.

11) أ.و.ت، س.ت، صندوق 182، ملف 1011، وثيقة 41-72.

12) أحمد، ابن أبي الضياف، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، تحقيق: لجنة من كتّاب الدولة للشؤون الثقافيّة للأخبار، الدار العربيّة للكتاب، تونس، 1963، ج 4، ص210.

13) م.ن، ص210.

14)محمد الصّادق باي (أبو عبد الله محمد الصادق باشا باي) من السلالة الحسينيّة، من مواليد 7 فبراير 1813م في قصر باردو، وتوفي في 29 أكتوبر 1882 في قصر باردو. هو باي تونس من سلالة العائلة الحسينية من 1859 حتى وفاته. في شهر جويلية عام 1860م  قرر الباي إنشاء أول مطبعة رسمية بالإضافة إلى أول صحيفة عربية في البلاد. انظر: ابن أبي الضياف، إتحاف أهل االزّمان، 1990، ج5، ص 11، وانظر  Nadia Sebaï, Mustafa Saheb Ettabaâ, Un haut dignitaire beylical dans la Tunisie du XIXe siècle, éd. Cartaginoiseries, Carthage, 2007, p11

15)  ابن أبي الضياف، إتحاف أهل االزّمان، ج5، ص142-143.

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet