شمس الأموات لا تدفئ الأحياء

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلم: د. كوثر  يونس

 

نفس الإنسان، ذلك الجوهر الذي يُسعده ويشقيه، يمرضه ويشفيه، يجعله مرحاً كأنّ الدّنيا بين يديه، وفجأةً تضيق وكأنّها ثقب إبرة، هذه النّفس التي تنحرف وتعتدل، تزكو وتضمر ، تكون عبقريّةً، كأنّما يوحى إليها من السّماء، وتكون شريرةً كأنّها لهب من الجحيم، هذه النّفس هل عرفناها؟ هل حدّدناها؟ هل صورنا أمراضها واهتدينا إلى علاجها؟

 

إنّ علم النّفس بكلّ الجهود المضنية التي بذلها لا يزال يقف عند الشاطئ، ولا تزال نظرياته مجالاً للاختلاف والشكّ، ولا تزال تتطوّر جيلاً بعد جيل، وطرائق بعد طرائق.

تدفقت الذّكريات من شتات الذّاكرة لتأخذها إلى السّيدة كوزان، مريضتها التي كانت تتابعها بمستشفى الأمراض النّفسية شاركو بباريس..

 

مستشفى شاركو للأمراض النّفسيّة، جمال المكان و روايات الزّمان .. في واحة من أشجار الزّيزفون ..و أبطالها مرضى نفسانيّون كانوا بالأمس القريب أناسًا عاديّين يشعّ منهم حبّ الحياة فيصبون إليها في لهفة و عناق جميل، و فجأةً تقسو عليهم الدنيا، وربّما  القدر أو  ربما أنفسهم.. لا ندري من بالضّبط ليغلقوا أبوابًا بالأمس كانت مشرعةً على شوارع العمل و العلم و الأسفار و الطّموح اللاّمحدود، و يفتحوا نوافذ ضيقةً يطلّون منها على جزء من عالمهم القديم ليتذكروا الاسم واللّقب و بعض الذّكريات التي ترفض الرّحيل عنهم كما فعلت نظيراتها…

 

جلست إلى مكتبها في الطّابق الأوّل من الجناح الأخضر، تتصفح ملف السّيدة كوزان بينما اهتمت الممرضة بإحضارها لأوّل جلسة معها…

السيدة كوزان تبلغ من العمر خمسين عامًا، سيّدة من عائلة ارستقراطية من نبلاء فرساي، أرملة منذ أربع سنوات، ومن هنا بدأت رحلتها. بدأت رحلة السّيدة كوزان يوم توفّي زوجها، لم تكمل قراءة السّطر العاشر من ملف السّيدة فطُرق باب المكتب و دخلت سيّدة تمشي بخطوات ضيقة بطيئة وهنة، مقوسة الظهر، تقاطيع وجهها تكاد تغطيه أغوار وأخاديد عميقة، وعيناها الذّابلتان تشبهان عيون الموتى، وذلك الشّعر المشتعل شيبًا وكأنّه صفحات بيضاء غسلتها أمطار الزّمن لتمحو بذلك كلّ الخطوط و تنزع عنها  كلّ الحبر.

 

جسدها النّحيل الذي لم تبق فيه السّنون إلاّ العظام، فكأنّه هيكل عظميّ يرتدي كيسًا من جلد رقيق خشن، وها هي خطواتها المرتجفة حتّى ليبدُو للنّاظر أنّ ريحًا مجنونة تتلاعب بخصلات شعر متدلّية على كتفي الدّهر فألبسها الزّمن بذلك حلة عجوز في الثّمانين. جلست على الكرسيّ واضعةً ساقًا على ساق، و نظرت إليها في كبرياء و كأن نظرة استعلاء الارستقراطيّين فطريّة فيها، فلم تنسها كما نسيت أشياء أخرى..

  • أنت تركيّة الأصل أليس كذلك؟ كلّ ملامحك تدل على ذلك؟

سألت السّيدة كوزان الدّكتورة بنظرات باردة مسحوقة تحت صمت بليد..

  • لا أبدا سيّدتي،

مع ابتسامة خفيفة ..هكذا ردّت عليها الدكتورة..

  • إذن أنت رومانيّة؟ حتى لهجتك تقول ذلك.
  • لا، أنا تونسيّة سيدتي..
  • أه ,تونس ذلك البلد الرّائع …

 

وفجأةً استسلمت للبكاء، و لم تتوقف إلا بعد مدّة من الزّمن و تحت رجائي المتكرر أن تتوقف، ثم نظرت إليها بحزن يتدفق من عينيها كتدفق جدول هاجرت ضفافه الأزهار و الخضرة ليمرّ في صمت كئيب فاقدًا هدير مياهه وروعة انعكاس شمس الأصيل على سطحه، وقالت في حزن أليم و كأنها تسترجع ذكرياتٍ من الزّمن البعيد

  • زرت تونس مرّتين مع زوجي، و تمتّعنا بجمال شطآنها و روعة الصّحراء و حرارة شمسها الرّائعة… قضينا أيامًا جميلةً ورائعةً…

 

ثم توحّدت مع صمتها، و زمجر بركان ذكرياتها حتى تدفّقت كلماتها المحبوسة في حنجرة أرهقها الحُزن، فهمست في حزنٍ أشد قتامةً من ليل لا بدر و لا نجم فيه:

  • أصبحت وحيدة في ذلك  القبو، أقرأ في الكتب الـمقدّسة عن خطايا الحبّ و الموت… ينادمني الصّمت… وفتات الوقت.. وفنجانٌ من القهوة الباردة.. وقصاصات الورق.. وآثار الألبومات التي اخترنا رحلاتها معًا، ولوحاته النّاقصة التي لم يكملها بعد.. ونعيق الغربان في الخارج.. وزجاج نافذةٍ يكشف عن سماءٍ لا لون لها، وكأنّ الـنّـبض ينتظر الموت من غير ما جدوى؛ رحل  الرّبيع كما رحل الأمس… حتّى  شجرة الخوخ لم تعد تصغي إليّ، ولا شجرة التفّاح، ولا البتولا، ولا شجيرات العنّاب، و لا أحواض الحبق، والعصافير لم تعد تدقّ على نافذتي الخلفيّة الصّغيرة لتوقظني من النّوم، أو تطرق بابي كي تحاورني، طائر الخطاف رحل أيضًا كما رحل الرّبيع…

و فجأة استوت في جلستها و نظرت إلى الدّكتورة نظرةً حادّةً  في فزع كئيب، وقالت في غضبٍ شديدٍ:

  • أنت ستموتين، ستموتين، كلّنا سنموت…

أجابتها الدّكتورة  في هدوء و سكينة:

  • لماذا سيدتي؟

فأجابت دون أن تنظر إليها

  • مات زوجي، و أنا سأموت، و أنت ستموتين…

 

ثم  أخذت تصيح بصوتٍ عالٍ: “كلنا سنموت، إنّه الموت، إنّه الموت….” التفتت إلى الممرضة التي كانت ترافقنا طيلة الجلسة و طلبت منها أن ترافقها إلى غرفتها…

 

بقيت الدّكتورة جاثمة فوق الكرسي تتخبط بين أمواج من التّفكير في جزع هذه المرأة و خوفها من الموت… هذا الخوف الذي قتل فيها حبّ الحياة فأحالها حطام جثّةٍ متدثرة بطلاء باهتٍ فاقدٍ لكلّ لون، تترقب أن تلفظ أنفاسها لتفارق الحياة إلى الأبد…

 

امتثلت السّيدة كوزان إلى مئات الجلسات العلاجية مع أطباء كثيرين، و لكنّها لم تمتثل للشّفاء و بقيت حبيسة الخوف من الموت، فانطفأ سحرها، وهاجرت عالما مليئًا بالنّجاحات و الأعمال و المؤتمرات و الزّيارات السّياحية لعدّة دول، فسجنها مرضها وراء سياج مستشفى الأمراض النّفسية لأربع سنوات…

 

أرادت مساعدتها بكلّ جهد، فأكثرت من الجلسات معها و أجابتها عن أسئلة كثيرة عن الموت و الحياة… و كانت كلّ مرة تفاجئني بسؤال أصعب من الآخر:

  • لماذا وجدت؟ وكيف أموت؟ ولماذا أموت؟ وماذا بعد الموت؟ وماذا قبل الحياة؟!

كيف تقنع سيّدة بحقيقة الموت و هي ترفضها، والأصعب من ذلك أنّها ملحدة لا تؤمن بالله الخالق الذي يحيي ويميت. كيف تقنع سيدة لا تؤمن بأن بعد فراق الدّنيا هناك حياة البرزخ ثم الجنة و النّار… أشقاها البحث في الإجابات المقنعة، و أدركت أنّها مستسلمة لفكرة الموت وأن الحياة و الجنّة هما فقط ما نعيشه في الحياة الدنيا.

كيف تحدثها عن عالم الآخرة الذي لا يخضع لزمان ذي أبعاد ثلاثة كزماننا، لأنّه عالم أبديّ سرمدي موصوف بالبقاء خلافًا لدنيانا الفانية…

 

إن هذه المعاني والحقائق المتدفّقة عندما تنسكب في شغاف القلب ويرتوي بها الكيان، وتلهج بذكرها ألسنة كلّ الخلايا، تثمر معرفةً لا عهد للعقل بها، أي لا تدخل في دائرة المعرفة العقليّة، وإنّما هي من ثمار المعرفة القلبية الثّابتة اليقينية…

 

كل هذه ميادين لا تزال بكراً، وعلى الرّغم من كل الجهود التي بذلت، وعلى الرّغم من كل الادعاءات المستندة إلى فهم والمستندة إلى دجل وسوء فهم، كلّ هذه الميادين لا تزال – وستظل إلى ما شاء الله- مجال الإيمان الذي لا يستطيع العلم أن يقتحم منطقته.

 

مرت الأيام بسرعة كما مرت الشّهور و السّيدة كوزان كما هي، . حبيسة خوفها من الموت، وعاشت الموت قبل أن تموت…

وفي ليلة اتّصلت بها صديقة مغربيّة، الطّبيبة التي اهتمت  بالسيدة كوزان بعد مغادرتها المستشفى و رجوعها إلى تونس،  اتصلت بها صديقتها لتقول لها إن السّيدة كوزان توفيت، سألتها في ألم هل انتحرت؟ فأجابت بحزن: لا….. لقد ماتت مخنوقةً  بحبّة فاصوليا وقت تناول وجبة  العشاء.

 

هكذا رحلت السّيدة كوزان من دون أن تعيش جمال ربيع الإيمان…

تاهت هذه السّيدة  في صحراء لم تكن تحلم بها قطّ، باردة، قاحلة جرداء..!.. يتلاشى فيها  الزّمن الفاصل بين الشّروق والغروب، اجتاحتها أصداءٌ مجهولة ورؤًى تبحث عن مرايا تعكس أفقًا من شواطئ بعيدة، ومن آماد ضاقت بعد أن كانت رحيبة، من هذا المكان العقلي، ومن هذا الزّمان الفضي للنّبض، ترتكب القصة بدايتها بحنق عبر مناخٍ باردٍ من التّعب والوهم المزعوم، جيش من الموت  حاصرها،  وفي فزع  الإلحاد شرّعت نوافذها  علّها  ترى الحياة، فتوحدت مع الموت.

 

 

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

فكرتين عن“شمس الأموات لا تدفئ الأحياء”

  1. لا بدر فيه ولا نجم افصح من قولك لابدر ولا نجم فيهفالأفضل تغيير العبارة بالتالي :” لابدر فيه ولا نجم”.
    خاطرة قصيرة ولكنها جميلة جعلتها لغتك السلسة مستساغة ومعانيها عميقة يمكن ان تكون نواة لقصة الحياة يحياها الإنسان بين لعب لهو جد وهزل فرح وترح مأساة وملهاة يستفيق بعدها عل حقيقة هذا الكائن الذؤ يكدح كدحا ينتهي به إلى الوقوف في عالم الخلد أمام ربه ليكتشف أننا كنا نائمين في عالم الدنيا وانكشف عنا الغطاء فعرفنا معنى الوجود ولكن بعد فوات الأوان.

  2. شمس الأموات الباردة ، للأستاذة الدكتورة كوثر يونس مقالة ممتازة ، فيها البعد الخيالي الجلي والرموز الفلسفية العميقة والاستعارات الذكية التي تجعل القارئ مشدودا إلى تسلسل أحداثها … هي باختصار من الكتابات الراقية مبنى ومعنى….( رأيي المتواضع )

اترك رداً على Fayali Boujemaa إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet