يا زهرتــي وخلــودي!

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلـــم: د. كوثـر يونس

 

وأثناء رحلتي التأمّلية رأيت مدينةً عظيمةً في بلد الإسراء و المعراج، مدينة  ذات أسوار عالية  تحميها من الأعداء، عليها رجال  شداد رهبان باللّيل وفرسان بالنّهار, ولهذه المدينة أنفاقٌ ضخمةٌ يقوم عليها الحراس الشّداد؛  تفتح نهاراً عند مطلع الشّمس، وتغلق ليلاً عند غروبها، فيمنع الدّخول والخروج إلاّ لمن يحمل كلمة السرّ من الفرسان و الحرّاس.

 

هي ليست ككل المدن، ولا توجد مدينة تشبهها .. هي جميلة فاتنة بهية… ممشوقة القوام ناضرة الوجه.. في عينها كلّ معاني الرّبيع.. كلّ شيء فيها متفتّح كالوردة النّاضجة صدرها النّاهد، ونظراتها الجاهرة.. وبشرتها المملوحة.. ومشيتها المتوثّبة.. ولفتاتها السّريعة.. هي إحدى نسائم عزّة أيقضها تفتّح الربيع.. وأنضجتها حرارته وانفلتت من كيانها تبعثر ما تجمّع في كيانها من رصيد الحياة المذخور، تقف إزاءها مدهوشاً مأخوذاً … كيف لا وأنت في حضرة غزّة تاج الشّرف وقاهرة الأعداء.

 

ورأيت في غزّة ألف برهان  وألف برهان بمائة ألف لسان ولسان.. لا يسمعها إلاّ من هو إنسان حقّا.. وأمّا من عميت بصيرته فلن يرى تلك الوجوه النّيرة و لن يفقه تلك الأقوال البينة .. ففي غزة آيات ناطقة بالحق.

 

وفي تلك اللّيلة القمراء كان يحوم وينعق سربٌ من الغربان.. هناك يرقد أبطال دون قبور…أيديهم على مقابض سيوفهم، عيونهم يسكنها ضوء النّهار، القمر يسكب على الأرجاء نوره الشّاحب، وينهض طفل من بين الموتى… مضرّجًا بالدّماء. ..متعمدًا بكلتا يديه على سيفه المبتور.. ويصيح الطّفل أيا هؤلاء! أما من أحدٍ فيه رمق من الحياة؟

وأجابه صدى صمت القبور: لقد ماتوا جميعًا… ماتُوا جميعًا أيّها الطّفل الصغير ..ماتوا جميعًا أيّها الطّفل الكسير،  والكلّ أصبح للذلّ أسير… ماتوا جميعًا بين منتحرٍ وقاتلٍ وخائنٍ وبائع وذليلٍ… نعم لقد اختاروا الموت يا طفلي بعد أن منحوا مفاتيح الحياة لشيطان لقيط…

 

رحماك ربي ..عيناي تذرفان دمًا، هذه خوذتي محطّمة ودرعي مخرَّقة. ..نزعت مساميرَها ضربات الفُؤوس ..رنين أجراس الكنائس يصمّ الأذان، وقرع طبول الموت يهدم كلّ بنيان… والقوم في غفلتهم نيام نيام…

 

أسمع غمغمة واسعةً تشبه زمجرة البحر وقصف الرّعود، ترى كم من صيّاد جريء لن يعود؟ وكم من ذليل لن يموت؟ وكم من طفلٍ سيحيى بعد تحطيم أصنام الطّقوس؟

 

ألا يا أيّها الغراب… يا آكل الرّجال…سأدق على منقارك الحديديّ ألف وألف مسمار..

لن تفتح بمنقارك صدري… ولن تسرق زرقة السّماء من عيني …اذهب إلى عيون الظلام حيث يكرع النّبلاء الجعة الفاخرة وهم يغنّون ويقرعون دنانهم الذّهبيّة على إيقاع موت الأطفال.

 

أما أنت اخفق بجناحيك يا جواب الضّباب…ابحث عن تلك الطّاهرة واحمل إليها قلبي …وعن أعلى البرج حيث تحوم العقبان ستجدها واقفةً شامخةً…بيضاء ذات شعر أسود مسترسل…وعلى رأسها حجاب العفّة والشّرف…عيناها أصفى ضياءً من البدر في أبهى أمسياته.. يا زهرتي وخلودي…يا محبوبتي ونبع روحي…أنا أشعر في عمق هذا اللّيل بشعاعات بدرك الذّهبي تغمرني…

 

تتسلّل وتنساب في قلبي…اذهب إليها يا رسول السّلام ..قل لها إنّي أحبّها…وهذا قلبي انها ستعرفه… أحمر صلبًا غير شاحب ولا رعديد…يغلّفه بردٌ من نور الدّعاء….ووشاح منسوجًا من خيوط النّور…نور قذفه الله في صدري …أنّي أنا صاحب الوطن…وصاحب الأرض وحامي العرض… ومهما سالت من على مهجتي عشرات الجراح… فلن أموت… ولكن سأمضي شابا شجاعًا ضاحكًا حرّا…نظرًا لأجلس على عرش من النّور…نجمًا جديدًا يطلع من جوف المحيط في سماء زرقاء صافية… نجوم جانحة إلى المغيب تغادرك، ولكن تبقى في السّماء تنير دربك يا غزة…

 

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

1 فكرة عن “يا زهرتــي وخلــودي!”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet