العيد في أريافنا: فرحٌ وألعابٌ وتَصويبٌ بالبَنادق

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلم: بوجمعة الفيالي

fayaliboujemaa@gmail.com

 

كنّا نَعيشُ أيّام رمضان الحلوة في الرّيف، ونحن في قمّة السّعادة. وكان كلّما اِنقضى منه يوم اِشرأبّت أعناقنا وزادت فرحتنا لاقتراب “العيد الصّغير ” وما يحمله معه من مَسرّة ككلّ أطفال الرّيف الّذين كانوا يتباهون بارتداء الملابِس الجَديدة في تلك المنَاسبة السّعيدة.

 

وأمّا آخر يوم في هذا الشّهر المبارك فقد كان له طعمُه الخاصّ لدينا رغم شُعورنا، كبارًا وصغارًا بطُول ساعَاته، وذلك لفرط شَوقنا لقُدوم اليوم الجَديد: يوم عيد الفطر السّعيد، حيث كنا نتجمّع – نحن أطفال الدوّار – قبيل غُروب الشّمس في قمّة الهضبة المسمّاة بـــ  “الرّقُوبَة ” (بالقاف المثلثة) نترقّب بفَارغ الصّبر  رؤية آخر وَمضة لمدفع الإفطار ، يتبعها آخر دويّ له يبلُغ مَسامعنا من مسافة بعيدة.

 

وبمُجرّد مُشاهدة تلك الوَمضة الشّبيهة بلمعان البَرق يَصيــح الجَميع بأعلى أصواتهم: “مَغرب … مَغرب …مغرب” فنُسرع لتناول الشّربة في الصّحفة التي “ملّستها” أمّي، مع بعض ما حَضر من طعامٍ، ثم نخرجُ للتجمّع من جديد والبحث عن ألعاب تُسلّينا.

 

وبسُرعة يتمّ تكوين فَريقين، الأول من الأطفال الصّغار الّذين يلهون بممارسة لعبة “الغُمّيضة” في حلقة مستديرة تبعث فيهم الحيويّة والنّشاط والضّحكات البريئة والبهجة العَارمة. وأمّا الفريق الثاني المتكوّن من أطفال أكبر  فيختارون لعبة ” اللُّبّيدة” (الاختفاء) وينقسِمُون بدورهم إلى فريقين، الأول يختار الانتشار في حقل الشّعير وصابة الفول والاختفاء عن الأنظار في مكان يُواريهم، والثّاني ينطلق بعد الإشارة للبحث والتعقّب، وكُلّما عثروا على أحدهم ملؤوا الدّنيا صياحًا وشهّروا به في مخبئه وأخرجُوه مهزومًا. وأمّا الفائز فهو العنصر الأخير الذي عَرف كيف يتوارى ويُتعب الفريق في البحث عنه تحت نور القَمر . لقد كنّا نجد في تلك الألعاب البَسيطة والبريئة لذّة وحلاوةً، وتسليةً منقطعة النّظير، رغم الرّكض والبحث في كل مكان، وصعوبة الظّفر بالمختبئ.

 

وأمّا صبيحة العيد، فيأتي دور آبائنا وكلّ شُيوخ “الدّواوير ”  فيجتمعُون على “الرّقُوبة” نفسها مُتبادلين تهاني العيد ، وسُرعان ما تكبر ” اللّمّة ” فيُصبح المكان كالمحتَشد، ويكثر الضّجيج والفذلكة وسَرد الحِكايات المسلّية من قِبل البعض، كما يُسرع الأولاد الكبار لجَلب فطور الحَاضرين، فتَأتيهم “مثارد ”  “المحوّر” و”الزّريقَة” و”العصيدة” و الكُسكسي” المسفُوف”، كما تُطلّ عليهم “غرافي” (جمع غرفيّة) المَرْقَة الحَارّة بالفرُّوج العربي مصحُوبة بكِسرة “الجرادق” الّتي خَرجت لتوّها من “قُوجتها”، و”برّادات” (جمع برّادة) ماء الشّرب ( والبرّادة هي قلّة صغيرة الحَجم).

 

وما يكاد القَوم يَنتهُون من الأكل والشّرب، حامدين الله على تلك النّعمة في هذا اليوم المبارك حتّى تطلّ عليهم “بْقَالِيج” (جمع بقلاج) الشّاي والقَهوة يَحملها الأطفال مع “صِينيّات” (جمع صينيّة) ملآنة كؤوسًا وفناجين، وهي تتمّة لفطور الحاضِرين. وأما المرحلةُ الأخيرةُ، فهي عِبارة عن مُنافسة شرسة بين صَيّادي الجِهة، أصحاب بَنادق الصّيد البرّي الّذين حَضرُوا وشَاركوا الجمع في الوَليمة، وعددهم عشرة من أمهر الصّيّادين، قد أتوا من كلّ مكان للتّباري في الرّمي، وقد جَلب كلّ صَيّادٍ معه بندقيّته مع “محزمة الكَرطُوش”، وسُرعان ما ينصبُون الهدف في مكان آمن، خالٍ من وُجود بشر أو حيوان، وتبدأ الحفلةُ برمي الهدف بالتّداول، وتُسجّل الضربات الصّائبة لأصحابها، وكلّ الجُمهور الحاضر يَستمتع برشق ذلك الهدف بالرّصاص.

 

وفي نهاية الحِصّة التي تمتدّ لساعاتٍ طويلةٍ، يقع ترتيب الرّماة حسب عدد رصاصاتهم التي أصابت هدفها بدقّة، كما كانت النّساء يجتمعن  في حلقاتٍ، ويُصبن نصيبهنّ من الأكلات والمشروبات، ولا يَتفرّقن إلا بعد زيارة بعضهنّ البَعض وتبادل التّهاني بتلك المناسبة  التي ألّفت بين القُلوب، وزادت سكان القرية وكلّ المدَاشر المحيطة بها قربًا ولحمةً وتآزرًا وتآخيًا مع زيادة صفاء السّريرة وحسن الجوار .

 

أمّا اليوم، فقد ولّت هذه العادات الجميلة، وانتهت تلك التّجمّعات الرّائعة صبيحة العيد، وحلّ مكانها الانكماش والانزواء بالنّفس وسَادت العُزلة، وضيّقت الخِناق على الجَميع، حتى أصبح يوم العيد عندنا اليوم عبوسًا قمطريرًا ، تشهد عليه شوارع وأنهج المدينة الخَالية من كلّ حراك إلاّ ما رحم ربّي.

 

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet