سـارقُ العِلــكة

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلم: أ. هذباء الغويلي

 

استيقظت المدينة ذات يومٍ على صوت صاحب الكُشك وهو يسوّق لجرائده: “سارقُ العلكة في ورطة”، هيّا تعرّفوا على ما جرى مع سارق العلكة. ولأنّ الخبر طريف فقد شدّ انتباه أكثر النّاس ممن سمعوه  فسارعوا لاقتناء الجريدة. ولأنّ خبر سارق العلكة لم يحتو إلاّ على  جملتين يتيمتين: “ستجري مُحاكمة سارق العلكة غدًا في تمام السّاعة العاشرة صباحًا، مسموحٌ بحضور الجمهور” قرّر  كثيرٌ ممّن قرأ الخبر حضور الجَلسة. وفي تمام السّاعة العاشرة صباحًا كانت قاعة المحكمة تعجّ بالحاضرين.

 

دخل القاضي وجليسُه والمدّعي العام، وظهر من خلف القضبان رجلٌ في الثّلاثين من العمر يتبلل جبينُه عرقًا من شدّة خجله من العيون التي ترقبه وتحملق فيه.

 

استوت هيئة القضاء في مجلسها، تنحنح القاضي معلنًا بدأ المحاكمة، صاح حارس القاعة بأعلى صوته: “محكمة”، فصمت الجميع واشرأبت الأعناق إلى القاضي. نظر القاضي في فضول إلى الحُضور وكأنّه يحاول التعرّف على الموجودين، وفي لمحةٍ عابرةٍ مرّر بصره على السّجين الذي يقف خلف القضبان، وقال وهو يفتح ملفّا أصفر بين يديه:

  • الاسم، حامد الجعايدي، السنّ 36 سنة، التّهمة سرقة علكة من المحلّ التّجاري أفروديت. ما هو قولك فيما نسب إليك يا حامد؟

 

وقف حامد وتشبّث بالقضبان:

  • سيّدي القاضي، إنها مجرّد علكة لا تساوي ربع قرش.

قال أحد الحضور:

  • ليست العبرة بقيمة المسروق وإنّما الجُرم في الإقدام على عملية السّرقة في حدّ ذاتها.

 

ووقفت سيّدة من بين الحضور وهي تشير إلى حامد بإصبعها محذّرةً:

  • من يسرق علكةً يسرق مصرفًا.

 

ضرب القاضي بمطرقته قائلا:

  • أرجو من السّادة الحضور الالتزام بالصّمت.

 

ثم واصل حديثه مع حامد:

  • ولكن يا حامد، إذا كانت العلكة بربع قِرشٍ فلماذا لم تشترها؟

 

قال حامد وهو يطأطئ رأسه:

  • سيّدي القاضي، إنّي لا أملك ربع القرش، فأنا عاطلٌ عن العمل منذ أشهر و أنا …

 

وقبل أن ينهي حامد حديثه قاطعه أحد الحضور:

  • يبدو من خلال ملابسه أنّ الحياة جادت عليه بخيرها، إنّ بقاءك بدون عمل لا يسوّغ لك السّرقة، فلو أنّ كلّ عاطل عن العمل مدّ يده لممتلكات غيره لأصبح ربع سكّان البلاد لصوصًا.

 

لم يعر القاضي كلام الرّجل اهتمامًا، وواصل حديثه مع حامد:

  • هل هذا يعني أنّك تقرّ بسرقة العلكة؟
  • سيّدي، أنا لم أسرق العلكة لأجل…

 

وقبل أن ينهي حامد كلامه نهض محامي الادّعاء قائلا:

  • سيّدي القاضي، أنا محامي صاحب المحل “أفروديت”، ولديّ تسجيل التقطته عدسات الكاميرا للّصّ وهو يأخذ العلكة ثمّ يفتحها بكلّ برودة دم ويضعها في فمه، ثم يلقي بغلاف العلكة أرضًا. وهذا هو الشّريط.

 

ثم تقدّم وسلّم  شريط التّسجيل إلى القاضي، قلّبه بين يديه ثمّ مرّره إلى مساعده، فمرّره المساعد إلى الحارس، وضعه الحارس في جهاز عرض ثمّ ضغط على زر التّشغيل، فظهر حامد وهو يأخذ العلكة من الدّرج، ثم يزيل عنها الغلاف ويضعها في فمه. وقبل أن يُلقي حامد بغلاف العلكة على الأرض نهضت من قاعةِ المحكمة سيّدة وهي تصرخ بأعلى صوتها:

  • لصّ، ومجرم، هذا قدوة سيّئة لأبنائنا، نطالبُ بأن تطبّق عليه أقصى العقوبة.

 

وآزرتها سيدة أخرى وهي تنهض وتمسك بابنتها من يدها، وتهمّ بالخُروج قائلةً:

  • إنّي أخاف على ابنتي من هذا السّلوك المُشين، سأُغادر وابنتي القاعة، وأرجو أن يتم إعدام هذا الحقير الذي ارتكب جريمته بكلّ برودة دم.

 

خرجت السّيدة وابنتها، فعمّت القاعة همهمة، وطرق القاضي على الطّاولة بمطرقته قائلا:

  • تؤجّل القضيّة إلى تاريخ 10/ 10.

 

خرج الحُضور من المحكمة وهم يتناقشون في العقوبة المحتملة التي سيسلّطها القاضي على حامد، ومنهم من طالب بتسليط أشدّ العقوبة عليه، فالدّليل ثابتٌ والنية مبيّته، وهناك من طالب بسجنه خمس سنوات مع ضرورة الإصلاح النّفسي والاجتماعي حتى يصبح عنصرًا صالحًا إثر خروجه من السّجن، ولا يُقْدم على السّرقة مرة أخرى.

 

أمّا أحد المتشددين فصاح:

  • اليد الّتي تمتدّ إلى الحرام يجب قطعها حتّى يرتدع صاحبها ويرعوي غيره.

 

مرت الأيّام، وأصبحت قضية سارق العلكة قضيّة رأي عام، انشغل بها الخاصّة والعامة، فهناك من هوّل القضيّة، وهناك من هوّنها، لكن اتّفق الجميع على أن حجم المسروق لا يُسقط التّهمة عن اللّص.

جاء اليوم المشهود وغصّت قاعة المحكمة بالحضور، الكلّ يريد معرفة نهاية سارق العلكة. وهناك من جلب معه أبناءه ليعتبروا من القصّة وتكون لهم درسًا من سجلاّت الحياة.

 

دخلت هيئة القضاة واستقرّت في مجلسها، وظهر حامد من بين القضبان حزينًا مرهقًا خجولاً. بدأت المحاكمة فقال القاضي:

  • بعد الاطّلاع على مجريات القضية قرّرنا- نحن هيئة القضاة- الحكم على حامد الجعايدي بثلاث سنوات سجنًا للضّرر المادّي والمعنويّ الذي ألحقه بصاحب المحل “أفروديت”، فقد بيّنت التحقيقات أنّ حامدًا كان حارسًا لهذا المحل قبل فصله منذ ستة أشهر. وقد فتح المحلّ بنسخة من المفاتيح التي لم يسلمها إلى صاحب المحلّ بعد فصله.

 

وقبل أن ينهي القاضي كلامه انسلّت من بين الحضور فتاةٌ صغيرةٌ في ربيعها الثّامن، وهرولت نحو القاضي، وبعد أن اقتربت منه أخرجت من جيبها علكةً وسلمتها للقاضي وهي تقول:

  • سيّدي، هل يمكن أن تأخذ هذه العلكة وتُطلق سراح العمّ حامد، إنّي أعرفه عندما كان يعمل حارسًا للمحلّ. لقد كان يعطيني قطعة حلوى كلّما ذهبت إلى المحلّ.

 

وبمجرّد أن أنهت كلامها قال أحد الحضور بصوتٍ عالٍ:

  • ربّما كان يسرقها من المحلّ ويوزّعها على الصّبية.

وقال آخر مغردًا في السّياق نفسه:

  • ربّما كان يقدّم لهم الحلوى ليَستدرجهم ويخطفهم ويبيعهُم لتجّار البشر.

 

حينها انتفض حامد من مكانه غاضبًا وهو يصرخ:

  • اللّعنة عليكم جميعًا، تحاكمونني من أجل علكة؟ نصبتم المحاكم وهيّأتم القضاة، وفتحتم القاعات لأجل محاكمتي على علكة بربع قرش؟ وأنتم يا من جئتم تتفرّجون على سارق العلكة تركتم أشغالكم وأعمالكم وقاعات المحاكم التي يحاكم فيها المجرمُون والقتلة وتجّار المخدّرات وأعضاء البشر وجئتم تنتظرون إعدام سارق العلكة التي لا تساوي ربع قرش؟ يا لكم من حمقَى! سيّدي القاضي، عندما جمعت الأدلة لإدانتي ألم يسترع انتباهَك أنّ المجمع التّجاري “أفروديت” قد شُيّد على قطعة أرض حكومية بناها صاحبها بعد أن سلّم رشوةً لرئيس البلديّة ومدير أمن المنطقة؟ ألم تتحقق من سلامة البضائع التي يبيعها المحلّ؟ لو دقّقت قليلاً لوجدت أنّ أغلبية البضائع منتهية الصلوحيّة وصاحب المحلّ يبيعها بتغطيةٍ من هيئة الصحّة التي يترأّسها صهرُه. ولو سألت العمّال في المجمع التّجاري لأخبروك أنّهم يعملون دون تأمين صحّيّ وبأجور زهيدةٍ.  ولو سألتني لماذا سرقت العلكة سأخبرك بأنّي أعاني من حالة عصبيّة تتسبّب  في شدّ عضلات الوجه، وحتّى أخفّف من ذلك الشّد عليّ مضغ علكة باستمرار، وعندي تقريرٌ طبّي في ذلك. ولأنّ صاحب المجمع طردني لأنّي رفضت أن أتورّط معه في جريمة بشعةٍ، وبقيت عاطلاً عن العمل لستة أشهر اضطررت لدخول المجمّع من الباب الخلفيّ دون أن أستخدم المفاتيح لأنّي سلّمتها له بمجرّد أن فصلني من العمل. ولو سألتني عن الجريمة التي أراد توريطي فيها لقلتُ لك إنّه أراد أن يستغلّ علاقتي الطّيبة بالأطفال لكي أستدرجهم إلى قبو المجمع ثم يتمّ بيعهم بعد ذلك لتجّار أعضاء البشر.

 

أثار كلام حامد ضجّةً في قاعة المحكمة، وغضب القاضي غضبًا شديدًا ونهره قائلاً:

  • سارقٌ وكذّاب، إنّ صاحب المجمّع رجلٌ شريفٌ، يده بيضاء ومبسوطة للمحتاجين والبؤساء، واسمه غنيّ عن التّعريف، وهو بريءٌ من كلّ هذه الأكاذيب.

وبمجرد أن انتهى القاضي من كلامه نهضت والدة الفتاة، وهرولت نحوها وأمسكتها من يديها وهي تقول عائدةً إلى مكانها:

  • أرأيت هذا المجرم؟ لقد كان سيخطفك ويبيع أعضاءك، ألم أحذّرك بأن لا تتحدّثي مع الغُرباء.

عادت الهمهمة من جديد إلى قاعة المحكمة، ولكن هذه المرة ظهرت بعض الهمهمات مُشفقةً على حامد ناقمةً على صاحب المجمّع التّجاري، وظهر صوتٌ لرجل مسنّ يرجو من المحكمة التّحقيق والتثبّت في أقوال حامد قبل إصدار الحكم عليه. وافق هذا الصوت مجموعةٌ أخرى من الحاضرين فأحسّ حامد ببعض الارتياح. لكن القاضي نهض من مكانه وهو يقول بحسمٍ:

– الحكم نهائيّ، ولا يمكن التّراجع فيه.

 

في هذه الأثناء دخل المحكمة ضابطُ شرطةٍ يتبعه ثلاثة عناصر من الشّرطة وتوجّهوا مباشرة إلى القاضي وألقوا القبض عليه.

في صبيحة اليوم التّالي استيقظت المدينة على صوت صاحب الكشك وهو يسوّق لجرائده: “القبض على القاضي المرتشي. هيّا اقرؤوا أخبار القاضي المرتشي”.

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

1 فكرة عن “سـارقُ العِلــكة”

  1. حامد اسم ذو مغزى يحمد فعله كل نبيل شريف لا تمتد يده إلى الحرام ولا يغتصب أرزاق الغير ولكن فعلته تلك إنما فعلها ليكشف عن حقيقة الواقع الذي يتخفى وراءه كثير ممن يدعون الطهورية ونظافة اليد مستغلين موقعهم المرموق غير آبهين ولا عابئين بحقوق الغير أو إحقاق حق أو دفع مظلمة وهذه القصة تحاكي واقعنا الأليم فالظلم مؤذن بخراب العمران والعدالة أعظم ميزان يحفظ حقوق الإنسان فإذا انحرف القاضي عن الصراط المستقيم مالت كل الموازين وفقد الأمل وانعدمت الثقة وشاعت الأنانية والعداوة وما أحوجنا إلى إقامة العدل .
    نشكر الأخت هذبة على إبداعاتها المتميزة وإنها لعمري لكاتبة قديرة نأمل منها أن تطلع علينا يوما برواية بديعة تطبق الآفاق وتشنف الأسماع وتروي الغليل وتشفي العليل وتشق في ميدان الإبداع طريقا لم تسبق إليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet