نبذة موجزة حول الأسباب الرئيسيّة للتّدخل الفرنسيّ (في تونس)

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

تعريب: أ. الأمين الكحلاوي

laminekahlaoui1972@gmail.com

 

ما إن اعتلى السّيد محمد الصادق باي سدّة الحكم حتّى غدت الحدود الجزائريّة مسرحًا لفوضى مستمرّة، وبعد العديد من الشكاوى التي تقدم بها القائم بأعمالنا بتونس كان ردّ حكومة الباي عن طريق إرسال لجنة تقصي الحقائق (بدون طائل)، ومن خلال سجن بعض المتّهمين (سرعان ما يُطلق سراحهم) أو بإظهار الولاء والمودّة أو بدفع تعويضات زهيدة.

 

ففي البداية تظاهر الباي كسابقية بنياته الحسنة تُجاهنا، ولكن سرعان ما تغيّر سلوكه بدفع من حاشيته، وربّما بإيعاز من صبرنا الذي اعتبره عجزًا منّا، ولكن دون أن يصبح عداؤه صريحًا.
ووفاء لتقاليده الشّرقية واصل الباي ردوده على ملاحظات أعواننا بكلّ اهتمام وعناية مظهرًا أسفه ومعبّرًا عن الوفاء بوعده. ولكن السّلطات التونسية لا تعاقب على تجاوزات إداريّيها بل تحرّضهم على ذلك مقدّمة كلّ حين اعتراضاتها المختلفة.

 

ولا تفتأ حكومة الباي الاستدلال بالأحكام القرآنيّة لتبرّر رفضها تسليم المجرمين الجزائريّين المتّهمين بجنايات وجنح حق عام. وكانت تعرض أراض لقبائلنا بالأوراس  و”صُوفْ” حتى تلزمهم بالخروج من الجزائر. وكانت هذه الحكومة تؤوي الفارين من عندنا، بل إنّها لتشجع كذلك تصريحات شيوخها العدائيّة.

 

إنّ أحداث 1870/1871م كانت قد زعزعت، بدون شكّ سلطاتنا في تونس، ولكن بالإضافة إلى ذلك فإنّ تأثيرنا الذي لم يتوقّف عن التحكّم في السيادة الأصلية في السّاحة التونسية منذ احتلالنا للجزائر تسبّب في منافسة كنّا قد بدأناها منذ عشرين سنة.

 

 

في سنة 1862م اعتبرت صحافة المملكة النّاشئة تونسَ مستقبلاً جزائريا إيطاليّا. وبدأ المضاربون التّجار من شبه الجزيرة يتشوفون إلى الأرض الموعودة التي تمت الإشارة إليها، وبدؤوا ينشئون نظاما بريديّا ويطالبون بامتيازات استغلال المناجم وكل المشاريع بمختلف أصنافها. وهذه المحاولات لم تشهد نجاحًا في الغالب، بيد أنها لقيت دعما قويّا من قبل القناصلة الإيطاليين (وخاصّة من قبل السّيد ماتشيو)، وأمّا قناصلة القوى الأخرى فقد اتفقوا على دعم تأثير بلدانهم والدّفاع عن مكاسب رعاياهم ضد الاعتداءات وطلبات رجال الأعمال المجحفة الذين قدموا من إيطاليا بعدد كبير. وتنظر الحكومة التّونسية بعين الاعتبار إلى المصاعب التي تطرأ في كل مناسبة بين الممثلين  الأوروبيين.

 

ومن جانب آخر فإنّ المحيطين بالباي لم يكونوا أبدًا مرتاحين أو سعداء فكانوا،  يمنحون  الامتيازات  لأكثر العارضين الذين يقدمون أعلى سعر، فخلقت بذلك مداخيل سهلة ومعتبرة. وقد أُعْلِمت الحكومة الفرنسيّة أكثر من مرة بهذه الوضعيّة فلم تتدخل بصفة عاجلة لأنّ الأمر يتعلّق في الحقيقة بمصالح شخصيّة ، بيد أنّ شركات المضاربين الإيطاليين بدأت بالانهيار وبدأ الإفلاس الكبير يزعزع شيئًا فشيئًا إيراداتها.

 

وأملاً في المحافظة على تأثيرها في تونس فكرت حكومة كرينالQuirinal  في دعم رعاياها وإسنادهم المناظرات المالية التابعة للدّولة. وفي الوقت نفسه عملت على قبول أعوانها كمترجمين وأطباء وكذلك مستشارين ثقات، صارت لهم الحظوة المطلقة في باردو. وفرنسا لا يمكن أن تبقى غير مبالية بعد الآن.

 

وعلاوة على مصالحنا الخاصّة في تونس، فإنه علينا أيضا تأمين ممتلكاتنا الجزائرية التي هي في خطر شديدٍ من جهة قوة أوروبية منافسة وعدائية. فالمعركة إذن محصورة بين فرنسا وإيطاليا. وقد كانت المهمة المنوطة بذمّة ممثلنا في الإيالة من أثقل المهمات، ولكن من حسن الحظ يبدو أنّ هؤلاء المنافسين – ورغم استعداداتهم الفطرية للتآمر – غير فطنين وشديدي الحمق كما هو الحال في ما يخص الشّركة الجديدة التي هي بصدد مباشرة أعمالها. وهي لا تشك أبدًا في نجاحاتها وترغب فورًا في الحصول على كلّ الامتيازات الممكنة. وعما قريب لن يشبع ذلك جَشعهم، فقد حاولوا تجريد الشّركات الفرنسية من الامتيازات التي منحتها لهم العقود المبرمة سلفًا.

 

 

وعلى سبيل المثال نذكر شركة سكك الحديد “بون قالمة”، فقد تحصّلت على امتياز مدّ سكة الحديد بين تونس وسوسة، وترى في نفسها مهدّدة في ملكيتها لفائدة شركة ايطالية تأسست سنة 1869م، وقد أفلست قبل أن تباشر أشغالها. وهي التي كانت قد  منعت على هذه الشركة الفرنسية نفسها بناء محطة سكك حديد برادس بحجة أنّ المعاهدة المبرمة مع الشركة الإيطالية ريباتينو(Rubatino) تتعارض مع تشييد بناية من هذا النّوع بالقرب من حلق الوادي.

 

 

ومن جهتها فإن شركة ريباتينو المدعومة بقوة تطالب بحق مد خط هاتفي على طول المسافة الفاصلة بين تونس وحلق الوادي، خلافا للمعاهدة المبرمة بين الباي ونابليون الثالث سنة 1861م، إذ كانت قد تحصلت بموجبها شركتنا على استغلال شبكة خطوط الهاتف التابعة للإيالة. وأخيرًا فإنّ شركة مارساي التي كانت قد اشترت ملكية خير الدّين بالنفيضة مهدّدة بانتزاع ملكيتها لفائدة شخص إسرائيلي يُدْعى ليفي (lévy) محميّ من قبل إنكلترا ومدعوم على ما يبدو من قبل الإيطاليين.

 

ويظهر  الباي بعيدًا جدّا عن الاعتراض على هذه التجاوزات، بل على العكس من ذلك فقد وافق على ذلك واصطف أكثر فأكثر مع الجهة المعادية لفرنسا. وهذه التجاوزات التي كان قد ارتكبها قناصلة إنكلترا وأعوانها حيث دعموا جهْدهم ادعاءات منافسينا ولم يقوموا سوى بتشجيع محمد الصادق على السير في الاتجاه نفسه الذي التزم به.

 

وفي النّهاية صار الرأي العام الذي بدا متأثرًا باستفزازات المبعوثين الإيطاليين ومقالات الصّحافة المعارضة لفرنسا (الصّحيفة الإيطالية العربية موسكتالMoscatel)  يعتبرنا ممنوعين من الوجود في تونس وسوسة، وبصفة عامة في كلّ المدن حيث كان يوجد الأوروبّيون.

 

هذه العداوة ترجمت خارجيّا من خلال العديد من الاعتداءات ضدّ رعايانا، وبصفة خاصّة ضدّ عمالنا في مستغلاتنا الفرنسيّة (عمّال شركة بون قالمة). وقد قوبلت الشّكاوى التي تقدم بها في هذا الإطار القائم بأعمالنا بمجاملة مفرطة في باردو، وأفضت إلى تبادل مراسلات سخيفة مشفوعة باعتراضات لا حصر لها تشي غاياتها بأسلوب حاذق ودهاء ماكرٍ بعدم تقبل لمطالبنا.

 

 

المصـــدر: HENRI CHARLES, L’expédition militaire en Tunisie 1881,Paris 1882, p.145-148

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet