كريستاليّة الرّجال…

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0
بقلم : مهاب لحبيري

أدار المفتاحَ بهدوءٍ خشية إحداث ضجيج يزعجها. دفع الباب بكلّ حذر إلى الحدّ الذي سمح له بمرور جسمه. سحب  المفتاح من القفل وأغلق الباب بهدُوء. لم يشأ أن يشعل النٌور. اِستعان بضوء هاتفه ثم هوى إلى أربطة حذائه يفكّ عُقدها. انسلّت قدماه كالنّسيم وما انتصب الجسد قائمًا إلاّ و فردتي الحذاء معلّقة بين سبّابته ووسطاه..

خطا خطوَتين حذرتين نحو خزانة الأحذية. فتح القليل من الدفّة اليُمنى ثم أغلقها بخفّة بعد أن أودع الفردتين فراشهما الوثير…

 

الهُدوء يعمّ المكان، وما السّاعة المعلّقة على الحائط قبالته تثير شغبًا وقد حُبست أنفاس عقاربها منذ زمن بعيد. تقدّم حافيًا نحو المطبخ  مسترشدًا نور هاتفه. ومن حسن حظّه لم يكن باب المطبخ مغلقا لأنّه لن يتوانى عن صريره المزعج إذا ما تم زحزحزتُه فتحًا أو إغلاقًا.

 

على طاولة الأبنوس ذات اللّحاف الورديّ الحريريّ، كانت القارورة البلّوريّة المتأنّقة بلمعانها والكأس الكريستالية  ذات السّاق الرقيقة على أهبة الاستعداد لإطفاء عطشه. أحاطت يُمناه بعنق الزّجاجة ثمّ قرّبها من شفاه الكأس وهمّ بسكب الماء ولكنّه عدَل عن الأمر في آخر لحظةٍ. ارتضى العطش وما أراد أن تزعجها غرغرة الماء في فجوة الكأس.

 

حتى سيّارته تركها في أوّل الشّارع وأكمل سيره على الأقدام. لا يريد أن يزعجها هدير مُحرّكها لو عنّ له الاقتراب أكثر من غرفة نافذتها. خرج من المطبخ واتّخذ سبيله على أطراف أصابعه نحو غرفتها. لم يكن لينام قبل أن يترنّم ببراءة وجهها أثناء غفوتها. كالرّضيع ينغمس خدّها الأيمن في وسادة الرّيش، أمّا الأيسر فتزيد حمرته خفقان قلبه. تتبعثر خصلاتها السّوداء على جبينها وتضيف شفتاها الورديّة المشهدَ رونقًا لا يمكن البتّة فهم بهاء تفاصيله. بقيّة جسمها يحتضنه غطاء “الدّانتيل” البنفسجي المطرّز عشقًا وشوقًا لا يعرف لهما حدًّا…

هاله الأمر حين سلّط شاشة الهاتف نحو السّرير. ارتعدت فرائصه واشتدّ به الفزع، وقد قاربت السّاعة الواحدة صباحًا.

 

ربّما نور الهاتف خادعه فسارعت سبّابته تستجدي نور الأباجورة الشامخة في ركن الغُرفة. الأمر أضحى يقينًا. ما أقرّه نور الهاتف أكّدته أنوار الأباجورة المغرورة. ازدادت حيرته وما وجد في قدميه شهامة الرّجال عند المحن. فما استطاع حركة ولا نداء حين وجد السّرير دون براءة ودون خصلات مبعثرة، وماهي سوى لحظات يطالع فيها مساوئ الأمور، ملأ عزف سحريّ على البيانو  الأرجاء. مازال تحت تأثير الخوف على  مصيرها. تلطمه التساؤلات كالغريق بين الأمواج حين تحتدّ شراستها.

 

لم يأبه في البداية للألحان العذبة المنبعثة من هناك. بدأ يلين داخله الفزع مع تصاعد نسق العزف. عادت لقدميه بوادر الشّهامة فأكرمته بركضة تتّبع مصدر “النوتات” المتراقصة لذّتها على أذنيه. وجد نفسه أمام قاعة الجلوس. بين أثاثها العتيق على الطراز الفرنسيّ العتيق وتحت نور الثريّات  الإيطالية ذات الدموع الكريستاليّة انتصب بيانو أبيض.

 

كانت كقطعة أحلام بفستانها الحريريّ الأحمر تداعب المفاتيح دون أن ترفع رأسها. أحسّت بأنفاسه تشاركها المكان فزادت من نسق العزف. كانت أناملها الرّقيقة تسامر الجنون فيوقظه اللّحن من سباته حينا ويعيده للحلم أحيانًا أخرى. طال العزف، وما شاءت العيون المغمضة أن تنتهي نشوتُها. المفاتيح البيضاء تنشر السّعادة بينهما وتذيب الودّ كحبّات سكّر في قعر الفناجين. أمّا المفاتيح السّوداء فكانت أنينًا ذكّرهما بعذابات عشقهما الأولى حين كادت تنسفه.

 

في سطوة السّحر الذي غمرهما، تسلّلت يده إلى جيب سترته لتخرج صندوقًا فضّيا صغيرًا. اقترب منها وهي المنهمكة في عزفها، المتألقة في دغدغة عشقها على ترانيمه وسلواه. وبحركات لا يجيدها سوى المتمرّسين في العشق اتّخذ عقد الألماس مكانه في جيدها. لاعب تحت وابل الألحان خصلاتها المبعثرة. ثمّ  طبع على وجنتها قبلة أحسّت أثناءها بقشعريرة الحبّ تسري بينها وبين وخزات لحيته الخفيفة. لم يشأ أن يمايز بين خدّيها فأراد العدل وأرادت القشعريرة مرّة أخرى.

 

بدأ بتنفيذ إجراءات القبلة على الوجنة الأخرى. أرادها أحلى من الأولى لكنّ الأحلام الجميلة لا يفسدها سوى الرّجوع إلى الواقع. انتفض مذعورًا على وقع ولولتها الشّديدة. كانت تندب حظّها العاثر الذي جمعها به. كانت آية في الجمال يوم عرفها. لكن السّحر فيها انطفأ تحت تأثير لامبالاته بها. وفعلاً لم يبال باللاّذع من القول المقذوف من لسانها السّليط..

 

أغمض عينيه وعاد يترنّم الحكاية الّتي كان يلعب دور البطولة فيها. لكنّه هذه المرّة تأكّد من كونه النّشاز في صيرورة أحداثها لأنه رجل شرقيّ لا يجيد الحبّ…

 

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet