حقّ النّمـــل

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

 

بقلم: عبد اللطيف علوي

 

كنت أيامها لا أزال شابا، حديث عهد بالعمل، والزواج، والأبوّة، والحياة الاجتماعيّة. كان عليّ أن أحيا حياة غير مستقرّة، دفعتني من الريف إلى المدينة، بحثا عن فرصة للإفلات من جحيم الملاحقة والخوف. المدينة كانت بالنسبة إليّ قرية نمل كبيرة، بإمكاني أن أضيع داخلها، ولن يسأل عني أحد، أو يعرف مصيري أحد.

 

سكنت بيتا على وجه الكراء، في حي ابن خلدون، قرب مقر العمل، لا يفصله عنه سوى شارع واحد، كان ذلك نوعا من التأقلم مع الحاجة، كي أتخلص من مشكلة النقل. صاحب البيت كانوا ينادونه “الحاج”، ولا أعرف إن كان قد حجّ فعلا، أم أن ذلك من بركات شكله السّوي، كان رجلا سبعينيّا، أو هكذا يبدو، نصف قصير، بوجه أبيض ممتلئ، ولحية دائرية بيضاء خفيفة، كان شخصا صموتا غامضا. عليه فائض من التّقوى يظهر جليّا في أدعيته الخافتة، أو في المسبحة الّتي لا تفارق أصابعه أو في أيّ شيء آخر. لم أرتح إليه على كلّ حال، كلّ ما كان يعنيني هو أن أحصّل له في آخر كلّ شهر معلوم الكراء، توصله زوجتي إلى زوجته على عتبة الباب، دون كثير كلام أو سلام.

 

بعد سنتين، (سنة 2001م) على ما أذكر- قرّرت أن أغادر ذلك المنزل إلى آخر في الحيّ نفسِه، واتصلت بذلك الشيخ الوقور الغامض، كي أسلمه المفاتيح، ويسلمني “الضّمد”، أذكر أنه كان 280 دينارًا، و”الضمد” هو مبلغ مساو لقيمة كراء شهر، يحتفظ به المالك في شكل ضمان لإصلاح ما قد يفسده الكاري بعد خروجه، لكنّ الأصل فيه أن يُعاد إلى صاحبه إذا لم يكن هناك إشكال. رفض صاحبنا بشكل قاطع أن يعيد إليّ ذلك المبلغ، رفض دون أن يهتزّ له طرف، أو يرتعش له جفن، بما يعني أنّه كان قد قرّر مسبقا بأن لا يعيد إليّ المبلغ في كلّ الأحوال، وتعلّل بأنّه لن يجد متسوّغًا لمنزله في القريب العاجل. منطق غريب، فكأنّه صار من واجبي أن أجد له مكتريًا عند خروجي.

 

لم أكن ممّن يتوسّلون أو يلحّون أو يتذلّلون، كما أنّي لم أكن ممّن يحلّون مشاكلهم بالعراك والخصام الفاجر أو بالكلام الفاحش، مثلما تعوّد عليه أمثاله من أصحاب الرّقع النّحاسيّة الصّدئة. أذكر أنّني رفعت عينيّ إلى السّماء، وانصرفت.
مرّت سنوات، ونسيت الأمر، ونسيته، إلى أن علمت يوما، وأنا في العمل، بأنّ هناك من يسأل عنّي في الخارج… لم أعرفه في البداية، كان ابنه الأوسط، لقد كبر وتغيّر عمّا كنت أذكره. أخبرني، في شيء من الانكسار، بأنّ والده، “الحاج” يحتضر، وهو يريد أن يصفّي أموره مع خالقه، وقد أرسل إليّ ذلك المبلغ، ويرجوني أن أسامحه.

 

لا أعرف حينها ماذا حدث لي بالضّبط، في لحظة، مرّ أمامي ذلك الشريط الأسود، ابنتي المريضة يومها، وإحساسي بالعجز أمام زوجتي، وبالذّلّ والهوان أمام نفسي. لعنت نفسي ألف مرّة أنّني نشأت متحضّرا، وكفرت بكلّ الكتب التي قرأتها، وجعلتني كائنا ضعيفا، يمنعه “التّحضّر” والخوف من أن ينتزع حقّه من بين ضلوعه إذا لزم الأمر.

 

كنت أخاف أن ينتهي الأمر في مخافر البوليس، فتفتح الجراحات القديمة، ويكون ما يكون… لم أكن أحتاج إلى أيّة لحظة للتّفكير، كلّ ما استرجعته في تلك اللّحظة هو السّخط والحقد. وكانا يكفيان لأقرّر في جزء من الألف من الثّانية. صعقه جوابي: “لن أسامحه. اذهب وقل له إنّي لن أسامحه أبدا، ولن آخذ المال”.

 

لم تترك له لهجتي الحادّة أيّ أمل ليلحّ عليّ، وبدا عليه حزن شديد وانكسار، نظر إليّ نظرة من لا حيلة له، ومضى دامعًا، دون أن ينبس ببنت شفة. حينها، رفعت عينيّ إلى السّماء، مرّة أخرى، بعد سنوات، أحسستها في تلك اللحظة ثواني معدودة، وعدت إلى البيت ممتلئا باليقين، بأنّ لهذا الكون ربّا عادلا لا يخلف وعده أبدا.

 

لست نادما، وما كان عليّ أن أسامح أبدًا. الدّين جعل من أجل أداء الحقوق إلى النّاس في مواقيتها، مثلما نؤدّي حقوق الله في مواقيتها. ومثلما أنّ الله لا يقبل التّوبة عند الغرغرة، فإنّ إرجاع حقوق النّاس أيضًا لا يجب أن يقبل عند الغرغرة، لأنّ المحتضر حينها لا يسعى إلى إحقاق الحقّ، وإنّما إلى البحث عن خلاص فرديّ. نوع من التّحيّل، على الله وعلى البشر في الوقت نفسه، والنّاس يتعاطفون مع المحتضر ويغفرون، ويصبح ذلك السّلوك عرفًا وعادة تتوارثها الأجيال، نأكل حقوق النّاس، ونرجئها إلى ساعة الرّحيل ونحن مطمئنّون أنّنا سنغتسل من ذنوبنا في آخر لحظة، وندخلها آمنين.

 

لست نادما؛ لأنّ الضّعيف العاجز عن الثّأر يجب أن يسحب منه حقّ العفو، العفو حيلة العاجز كي لا يموت من القهر. الله يعفو ويغفر لأنّه القويّ القاهر القادر المقتدر، يملك العقاب ويملك الغفران، أمّا أنا فمجرّد نملة صغيرة تافهة تحاول أن تتوه بين ملايين النّمال، وتحاول أن تتّقي الأرجل التي تريد أن تدوسها بلا أيّة رحمة أو إحساس بوجودها. ذلك من أبسط حقوق النّمل، أن لا يغفر ولا يعفو.

 

الحقّ، إذا انتزع من صاحبه لا يمكن أن يعاد إليه أبدًا بالقيمة نفسها، لأنّ وقته يكون قد فات، الوقت هو الّذي يحدّد قيمة الأشياء، ولا قيمة للحقوق خارج مواقيتها. طيلة حياتي، لم أدع الله أبدًا أن يرزقني، ولا أن يرحمني، ولا أن ينصفني. كيف أطلب من الرّزّاق أن يرزقني، كنت واثقا دائما بأنّ من يرزق الجنين في ظلمات الأرحام كفيل بأن يرزق عباده دون حساب، ومطمئنّا إلى غدي مهما ضاقت عليّ الحال. كيف أرجوه أن يرحمني، وهو الرحمان الرّحيم بلا دعاء أو رجاء، وهو المنصف لعباده دون أن يطلبوا، لأنّها من صفاته العليّة الّتي لا تحتاج إلى أن نطلبها كي تتحقّق.

 

طيلة حياتي، كنت دائما أدعو الله وأرجو منه شيئا واحدًا…أن لا يجعلني ظالما… وأن يبتليني فيما دون ذلك بما يشاء.

 

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet