الخصائص والأبعاد الجمالية للمخطوط الأندلسي: مصحف ابن غطوس مثالاً

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلـم: وصال خماسي

 

امتازت أغلب مخطوطات العالم الإسلامي والعربي خاصة بخصائص مشتركة عدة, إلا أن ذلك لا ينفي وجود خصوصيات أو مميزات لمخطوط بلد معين عن آخر[1]. فالمخطوط الأندلسي، ذلك المخطوط الذي اتسم بخصوصيات عدة أهمّها أنه مخطوط عربي أنتج على أرض غير عربية, إضافة إلى أنه أنتج في ظل بلاد اتسمت بثرائها وباهتمام القائمين على شؤونها من الحكام العرب المسلمين بفن الكتاب وصناعته، مما ساهم في إنتاج وصناعة مخطوط مميز من الناحية الشكلية والفنية، هذا طبعا إضافة إلى محتواه العلمي والمعرفي القيم و الذي يشهد على احتكاك وتمازج حضاري وثقافي هام بين الشّرق والغرب. وإن دراسة خصائص المخطوط الأندلسي من ناحية صنعته وشكله، أو حتى من خلال دراسة محتواه تجعلنا نتبين مكانته المميزة كعلامة فارقة في إرثنا المخطوط الاسلامي عامة والعربي تحديدًا .

 

خط مخطوطنا المثال على مادة الرّق[2], وامتازت هذه العينة بمنمنماتها وتزاويقها المميزة باعتبار قدسية محتواها، كيف لا وهي مصحف قرآني  تام, محفوظ بدار الكتب الوطنية بتونس  تحت رقم 13727 ومأخوذ من رصيد الأحمدية، ويضم رصيد دار الكتب الوطنية التونسية ما يناهز الثلاثين ألف مخطوط مختلفة المواضيع بين علمية و أدبية و دينية[3].

وتعد كتابة القرآن على مادة الرق  محبذة أكثر[4] برغم انتشار الورق أو الكاغذ بالأندلس في نفس الفترة التي وجد بها ناسخ هذا المصحف.

كتبت أغلب المخطوطات الأندلسية على الرق و على الورق. وقد لاحظنا أن المخطوطات مختلفة الأغراض والمواضيع كتبت على الورق, أمّا المصاحف القرآنية والنّصوص الدينية عموما فقد خطت على الرق, وفي الكتابة على الرق تشريف للمكتوبات وميل بها إلى الصّحة والإتقان [5].

 

وقد وضح  ليفي بروفنسال في الجزء الثالث من كتابه تاريخ إسبانيا المسلمة: فترة الخلافة في قرطبة, أن صناعة الرق والورق في الأندلس اعتبرت صناعة أو مادة من مواد الترف، وميز بين نوعين من الرق، الأول مستخرج من الصقل الجيد لجلود الخرفان, والثاني الذي يمتاز بالجمع بين جودة الصقل والمتانة وهو المأخوذ عن جلود الغزلان والمجلوب من الصحراء [6].

 

أما عن مصدر هذه الرقوق المجلوبة من الصحراء, فهي أفريقية التي بلغ أهلها في صناعة و تجهيز الرق وصقله وتمحيره وصبغه-  أحيانا بألوان مختلفة بين أخضر ولازوردي وأحمر قان – الغاية القصوى في الإتقان والنعومة ,حتى صار الرق من السلع التي يتجهز فيها ويرتفق بها إلى جميع آفاق المغرب والأندلس والعدوة الإفرنجية. وهنا يجب التنبيه إلى أن أهل الأندلس إنما أخذوا صناعة تحضير الرق وكذا صنعة ورق الكاغذ بعده من أهل القيروان [7]، أما الورق ومفرده ورقة، وجمعه أوراق وكل من يتصل عمله بالورق صناعة أو كتابة يسمى وراقا. وورد اسم الورق في  القرآن الكريم باسم قرطاس وصحيفة…كما تطلق عليه اسم الكاغذ، ويقال للصحيفة أيضا طرس ويجمع على طروس ومهرق ويجمع على مهارق [8] .

 

ودرج استعمال كلمة كاغذ عوضًا عن الورق في كل بلدان المغرب والأندلس, و الكاغذ كلمة صينية الأصل [9] ، وليس فقط الكلمة أخذت عن الصينيين فان صناعة الورق ككل او الكاغذ أخذها العرب مباشرة عن الصينيين في أواسط القرن الثاني وبالتحديد سنة 134 هجري – 751 ميلادي .

 

أما صناعة الورق في الأندلس فاختصت به شاطبة “وهي مدينة في شرق الأندلس و شرقي قرطبة، وهي مدينة كبيرة قديمة خرج منها خلق من الفضلاء ويعمل الكاغذ الجيد فيها ويحمل إلى سائر بلاد الأندلس” [10] .

وأول كاغذ مؤرخ يعرف من صنع شاطبة يحمل تاريخ سنة 549 هجري[11]

ويعرف ورق شاطبة وهو الأجود في الأندلس كلها بأنه جيد الصقل ويمتاز بثخانته, وطريقة صنعه لا تختلف كثيرا عن طريقة صنع الورق في الشرق, وذلك بمزج ألياف الكتان  بألياف نبات القنب ونقعهم في الماء والكلس ثم يقع رحي او طحن الكل ليتحصل على عجين أولية لصنع الورق.              وعوض هذا الورق الرق تماما بعد انتهاء خلافة الاموين في الأندلس, و صار يستعمل بعد ذلك في كل أرجاء اسبانيا [12]

 

ويعود الفضل أيضا لإدخال صناعة الورق إلى الأندلس لأهل افريقية وخاصة لأهل القيروان. حيث ذكر حسن حسني عبد الوهاب في كتابه ورقات عن الحضارة العربية الإسلامية بافريقية التونسية,  بأن عديد الوراقين هاجروا من افريقية إلى الأندلس وعملوا كوراقين ببلاطات الخلفاء الأندلسيين أمثال عثمان بن سعيد الصيقل، وهو من موالي الأغالبة نشأ في بلاط رقادة، ومهر في جملة صناعات رقيقة من ضمنها الوراقة, يستدعيه الأمير الحكم ولي عهد الأندلس بعد سقوط بني الأغلب سنة 296 هجري فيلتحق به في قرطبة ويختصه بتحضير الرق الرفيع. وهذا إبراهيم بن سالم التونسي ويعرف بالوراق الإفريقي درس بمدينتي تونس والقيروان وحذق صناعة الرق والوراقة حتى تلقبها, ثم قصد الأندلس واتّصل بالأمير الحكم المتقدم فخصه لصنعة الورق, وقد عمل منه كثيرًا للمكتبة الأميرية لبني أمية… [13]

 

إذن لولا العرب لما دخلت مادة الورق إلى أوروبا، فبعد أن احتكر العرب طريقة صنع الورق والاتجار به لمدة 500 سنة [14] تسربت هذه المادة باحتكاك الشرق بالغرب عن طريق قنوات حضارية أهمها افريقية والأندلس, ولا يخفى ما كانت تحظى به هذه المادة من أهمية باعتبار أنها السبب الرئيسي الذي مكن الأوروبيين من اختراع الطباعة التي أحدثت نقلة تاريخية هامة تبلورت معالمها أساسا مع عصر النهضة, وما مثله هذا الاختراع من ثورة صناعية في مجال فن الكتاب حيث أسهمت الطباعة في تكثيف إنتاج الكتاب والضغط على تكلفته، وأسهمت بالتالي في تسيير وتسهيل تنقل وانتشار المعرفة وجعلها في متناول الجميع بعد أن كانت حكرًا على ذوي النفوذ وعلية القوم.

  • ناسخ المخطوط :

ناسخ المخطوط هو الخطاط محمد بن عبد الله بن محمد بن غطوس المتوفى سنة 610 هجري-1213 ميلادي، ويعرف أيضا بابن غطوش, المتخصص في كتابة المصاحف. نسخ هذا المخطوط سنة 564 هجري الموافق لــ 1169 ميلادي ببلنسية بالأندلس. ويضم رصيد دار الكتب الوطنية التونسية  نسخا أخرى من القرآن من نسخ الخطاط نفسه أو حتى من نسخ أبيه عبد الله بن محمد بن علي بن مفرج بن سهل الأنصاري، ويعرف بابن غطوس . واحتكرت عائلة بن غطوس أصيلة مدينة بلنسية بالأندلس كتابة المصحف القرآني وتذهيبه وزخرفته.

 

وأورد حسن حسني عبد الوهاب بخط يده في تقديمه لمخطوط قرآني آخر من نسخ عبد الله بن محمد بن غطوس محفوظ تحت رقم 18791, أن هذا المخطوط قد جلب من بلنسية إلى تونس بواسطة الحافظ ابن الابار الذي كان على علاقة وطيدة بعائلة ابن غطوس والذي هاجر من الأندلس واستقر بتونس. وذكر هذا الأخير في كتابه التكملة أن محمد بن عبد الله بن محمد بن غطوس “قد آلى على نفسه ألا يخط ترفا من غير المصحف ولا يخلط به سواه تقربا إلى الله وتنزيها لتنزيله الكريم, فما حنث فيما أعلم، وأقام على ذلك حياته كلها خالفا أباه وأخاه في هذه الصناعة التي اشتهروا بها, وكان معروفا فيها وفي إبداعها آية من آيات خالقه مع الخير والصلاح والانقباض على الناس والعزوف عنهم… “[15].

 

  • التجليد :

حفظ المخطوط بأديم مدبوغ بالأحمر[16] . وامتاز التجليد أو المصحف ككل بشكله المربع, إضافة إلى أنه ضم زخرفة بنوعيها, هندسية على شكل تسطير, خطوط مستقيمة ومتقاطعة مكونة إطارا ضم بداخله زخرفة نباتية مورقة على شكل أغصان رقيقة ومتشابكة وأيضًا على شكل زهور.

 

وتكمن أهمية أسلوب التّجليد في أنه أحيانا يصبح دالا على هوية صاحب الكتاب [17] أو حتى على أهمية الكتاب نفسه, خاصة إذا كان مصحفا قرآنيا حيث أن المصحف الذي أرسل إلى الأندلس أو ما يعرف بمصحف عثمان لقي أشد الاهتمام والعناية حيث يذكر المقري في كتابه نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب, واصفا ما لقي هذا المصحف من اهتمام وتعظيم : “ثم إنه مادام الله سبحانه تايدهم, ووصل سعودهم, لما أرادوا من المبالغة في تعظيم المصحف المذكور, واستخدام البواطن والظواهر فيما يجب له من التوقير والتعزيز , شرعوا في انتخاب كسوته, وأخذوا في اختيار حليته, وتأنقوا في استعمال أحفظته وبالغوا في استجادة اصونته, فحشروا له الصناع المتقنين والمهرة المتفننين, ممن كان بحضرتهم العلية أو سائر بلادهم القريبة والقصية, فاجتمع لذلك حذاق كل صناعة ومهرة كل طائفة من المهندسين والصواغين والنظامين والحلائين والنقاشين والمرصعين والنجارين والزواقين والرسامين والمجلدين وعرفاء البنائين” [18]. وعموما برع أهل المغرب والأندلس في صناعة التجليد المزخرف عن طريق الضغط عليه بواسطة قوالب فولاذية تحدث على الجلد زخرفة غائرة ونافرة، كما أنهم ابتكروا تزاويق خاصة ومميزة من خلال ترصيع التجليد بالأحجار الكريمة واستعملوا الذهب والفضة، ويعد ذلك سابقة في هذا المجال اقتدى بهم حرفيو بلدان أخرى خاصة الأوربيين منهم [19] .                                                                                                      

  • المقاس :

 امتاز المخطوط بشكله المربع تقريبا بخلاف ما كانت عليه المصاحف القرآنية عموما وخاصة المشرقية التي عرفت بشكلها المستطيل, غير أن المخطوط القرآني في الغرب الإسلامي وخاصة بالأندلس, اتخذ شكلاً مخصوصا نوعا ما و محدثا [20], إذ مال أكثر إلى شكل المربع و إلى صغر الحجم مما ميزه ذلك بدقة أكثر على مستوى الكتابة والزخرفة.

أما مقاس مخطوطنا فهو كالتالي:  15,5 ⁄ 16,7 سنتمتر, ولعل المخطوط كان بشكل مربع متساوي الأضلع تماما إلا أن الجلد يتمدد أو ينكمش تأثرا بعوامل المناخ كالرطوبة أو الحرارة الشديدة بما يجعل المقاسات تتغير تغيرًا طفيفًا. أما كعب المخطوط أو ناحية التسفير فهي بعرض 4 سنتمتر.

  • المسطرة:

احتوى أغلب رقوق أو  صفحات المخطوط على 26 سطرًا.

  • علامات ترقيم المخطوط:

 

ضم المخطوط 136 ورقة ولم يضع ناسخ المخطوط ترقيما لصفحات المخطوط, ولم يعتمد تقنية أو طريقة التعقيدات, مما يسهل عليه مهمته ربما في تجميعه للرقوق وضمها تراتبيا بعضا لبعض هي ترتيب السّور وعناوينها المتداولة, أو ربما حفظه التام للقرآن خاصة أن الناسخ وأهله مختصون في نسخ القرآن الكريم وتزويقه، وبالتالي مكنه احتكاكه المتواصل بالمصحف من حفظ ترتيبه. أما عن ترقيم الآيات فقد ذكر الناسخ في افتتاح كل سورة عنوان السورة وعدد آياتها ووضع عند نهاية كل آية علامات زخرفية اتخذت بعدا وظيفيا إلى جانب بعدها الجمالي، وسنحاول دراسة هذه الوحدات الزخرفية في عنصر قادم.

 

  • الهوامش:

 خلافا لما عهدناه في أغلب المخطوطات والتي تعج أغلب حواشيها بشروح وتعاليق متنوعة من قبل كل من يملكها أو يقرأها, فإن مخطوطنا لم تستغل حواشيه للكتابة ربما في ذلك تعظيم وإجلال لكلام الله. واستغلت الهوامش فقط من قبل الناسخ الأصلي للمخطوط وذلك من خلال تنميقها بزخارف مميزة للزينة, أو حتى لتؤدي وظيفة التأشير  على نهاية السور أو الأحزاب والأجزاء .

 

  • مطلع المصحف:

أبرز ما يميز المخطوطات القرآنية هي الصفحات الافتتاحية أو المطلع. ويغلب على هذه الصفحات الافتتاحية العناصر والأشكال الزخرفية, أو أن يجمع بين الفاتحة أول سور القرآن وزخرفة مميزة, مثلما هو الحال في مخطوطنا، حيث بادرتنا الزخرفة المنوعة في شكل إطار وميدالية جانبية تضم زخرفة نباتية مورقة, وأكثر ما شد انتباهنا في هذا المستطيل المزخرف الذي يضم ضفيرة على الجانبين, كتابة بخط كوفي مزهر وليس بخط أندلسي, يصعب أول الأمر قراءة هذه الكتابة، إذ تظهر وكأنها زخرفة بحتة وتتوضح بالتمعن والتدقيق فنقرا “فاتحة الكتاب سبع آيات”, وفي أغلب المصاحف نجد الصفحات الاستهلالية المزخرفة مفردة و نادرا ما تحمل كتابة، وتعد صفحتنا هذه مميزة لما تحمله أولا من زخرفة، وكذلك من خط كوفي. وفي هذه الصفحة فقط كتب عنوان السورتين الفاتحة والبقرة بطريقة مميزة وداخل إطار يحمل زخرفة على شكل سلاسل وجدائل متقاطعة, خلافا لباقي عناوين السور بالصفحات التالية فقد كتبت بخط أندلسي مذهب محدد بلون أسود رفيع على الطريقة البيزنطية. وبجانب العناوين على الحاشية اليمني أو اليسرى أضيفت زخرفة على شكل ميداليات تحمل زخرفة نباتية.

 

  • المداد والألوان:

يعد هذا المخطوط عينة ثرية جدّا نظرًا للحضور المكثف للألوان المختلفة الأساسية والثانوية, الحارة و الباردة, واستعمال اللون الذهبي للزخرفة وكتابة العناوين. وكانت الغلبة للون الحبر الكربوني الذي مال إلى اللون البنّي, وكتب به جل محتوى المصحف.

واستعملت ألوان مختلفة للإعجام أو الشكل، إضافة للحركات الصوتية ونقاط الشونيز: فكان الأزرق السّماوي أو الأزوردي  للتضعيف والسكون و للشدات, اللون الأحمر القرمزي  للنصب و الرفع والمد, والأصفر المائل للبرتقالي لنقاط الشونيز.

وبالتالي لم يستعمل اللون فقط لمجرد التزويق والزّينة إنما صار يحمل دلالات وإشارات تساعد القارئ أو المريد لتجويد القرآن وإعانته على الترتيل ترتيلاً سليمًا.

 

وما يميز هذه الألوان هي مصادرها الطبيعية كالأزرق المستخرج من اللازورد، واللون الأخضر المستخرج من سحق حجر الملكيت كما توجد ألوان تستخرج من النباتات كالنيلة وهي صبغة زرقاء والجهرة وهي صفراء مائلة للأخضر والزعفران والعصفر[21]. أما إنتاج الزعفران والعصفر المستخدمان في الصباغة والدهان أيضا فقد اشتهرت به كل من اشبيلية التي يجود القطن بأرضها فيعم بلاد الأندلس ويتجهز به التجار إلى افريقية وسجلماسة وما والاها، و كذلك العصفر بها يفضل عصفر الأفاق [22] وعرفت بياسة من أعمال الأندلس أيضا بمستغلات الزعفران الكثيرة بها[23]، واشتهرت طليطلة بإنتاجها للزعفران وللصبغ السّماوي[24]. أما اللون الأحمر فيستخرج من القرمز الذي وصفه المقري في كتابه نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب فقال عنه بأنه من الأمنان التي تنزل من السماء وينزل على شجر البلوط فيجمعه الناس من الشعرا ويصبغون به فيخرج منه اللون الأحمر الذي لا تفوقه حمرة[25].  و للحصول على الألوان من هذه المواد الطبيعية النّباتية وحتى المعدنية يتعين أن تسحق هذه المواد إلى أن تصبح ناعمةً ثم تنخل وتخلط بالصمغ العربي أو زلال البيض كمواد مثبتة، أما الفراشي فكانت تصنع من شعر الحيوانات[26] .

 

  • زخرفة المخطوط :

 يعد المخطوط نموذجا مميزا وقيما نظرًا لما اشتمل عليه من عديد الزخارف النباتية والهندسية، ويتجلى هذا الثراء الزخرفي بدء من تجليد المخطوط حتى آخر ورقة بالمخطوط. فقد زوق المخطوط ونمق بكلّ عناية ودقة ليخرج على ما عليه من رونق وجمال على جميع المستويات بدء بالمواد المستعملة في صنعته وصولا إلى خطه المميز وألوانه المبدعة وأيضا تزاويقه المميزة و الثرية. ولم تتعدّ وظيفة الزخرفة على التجليد دورها التزويقي الصرف بخلاف الزخرفة داخل صفحات المصحف حيث اكتسبت بعدًا وظيفيّا لتكون بمثابة الإشارات أو العلامات المحدّدة لنهايات الآيات أو الأحزاب و الأجزاء…إلى جانب الحفاظ على دورها الجمالي.

 

واتخذت الزخرفة الوظيفية في عينتنا هذه أساسا ثلاثة أشكال تراوحت بين الهندسية البسيطة والأشكال النباتية المحورة. تمثل الشّكل الزخرفي الأول في زخرفة هندسية على شكل دائرة بيضاء محددة بخط رفيع أسود، تتوسطها دائرة مذهبة أصغر مزوقة بست نقاط تراوح لونها بين الأزرق  و الأحمر، ولا يتعدى قطر الدائرة ككل 0,25 ملمتر. أما الشكل الثاني فهو زخرفة نباتية ذات شكل بصلي مغلق، ويعد هذا الشكل وحدة زخرفية كلاسيكية موروثة عن التيارات الزخرفية القديمة كالرومانية أو السّاسانية [27] . أما الشّكل الثالت فيعدّ الأشهر والأكثر اِستعمالاً في جل المخطوطات القرآنية مشرقية كانت أو مغربية، وهو على شكل زخرفة نباتية مشتقة أو محورة عن زهرة اللوتس ذات الثلاث ورقات.

 

هذا في ما يخص الزّخرفة الوظيفية المحددة لنهاية الآيات والمستعملة داخل المتن، أما الزّخرفة على الهوامش فكان البعض منها وظيفيًّا وضعت لتحدد الأحزاب، وكانت على شكل زخرفة هندسيّة دائرية الشكل محاذية تمامًا لعناوين السّور، وكتب داخلها بخط أندلسيّ ثخين وبلون أبيض كلمة “حزب”. ويدعم حضور الزخرفة الوظيفية بأخرى تزويقية بحتة، ووجدت هذه الزخرفة أيضا على الهامش وبجانب عناوين بعض السّور، وكانت على شكل حليات صغيرة تحمل زخارف نباتية بها سعفات نصلية متناظرة ومتشابكة في ما بينها بكل ليونة وسلاسة على أرضية منقطة بنقاط دقيقة مما أكسبها ملمحًا مخمليا رقيقا. قام هيكل جل هذه الحليات الزخرفية الصغيرة على مبدأ التناظر والانطلاق من ساق محورية واحدة، لكن في بعض هذه الحليات وجدنا شكل زهرة اللوتس ذات الورقتين والمتحدة بسعفة ذات ورقة واحدة تشكل وحدة طرفية طويلة بدرجة ما يطلق عليها أيضا اسم “الغمدة”[28] .

 

 وحددت المشتقات الزخرفية من زهرة اللوتس عامة ب 260 نوعا وانتشرت هذه الوحدة في جل بلدان البحر الأبيض المتوسط واستعملت خاصة في الزخرفة المدجنة باشبيلية و بالحمام الملكي بالحمراء [29]. وزوقت صفحات المخطوط أيضا ببعض الزخارف الهندسيّة البسيطة التي فصلت بين السور، وكانت على شكل سلسة أو جديلة وكانت هذه الزخارف الهندسية البسيطة بمثابة البسطة أو التقديم للطبق النجمي أو التشبيكة الثمانية التي سنجدها في الصفحتين الختمايتين للمصحف. وعادة نجد الاهتمام بالزخرفة داخل المصاحف القرآنية المشرقية خاصة في المطلع إلا أن مزوق هذا المصحف المنتمي للغرب الاسلامي أجرى استثناء بإيلائه اهتماما أكبر لختام القرآن وتزويقه تزويقا مميزا . والاستثناء الآخر هو وجود عقد التحبيس في آخر المخطوط بخلاف ما اعتدناه في أغلب المخطوطات القرآنية الأخرى .

 

وعقود الحبس في هذه المخطوطات  عموما هي شاهد على محطة من محطات رحلة المخطوط الأندلسي الشاقة إذ أن أغلب المخطوطات الأندلسية كانت رفيقة أصحابها المهجرين قسرًا من الأندلس قبل أن يستقر به المطاف في دار الكتب الوطنية التونسية أو غيرها من الأماكن. ومن المخطوطات الأندلسية بالمكتبة الوطنية التونسية وتحمل عقود حبس تثبت من ملكها سابقا وعلى أي المكتبات حبست:

– مخطوط رقم 08847 “نزهة المجالس في تحفة المجالس” للكناني القيجاطي حيث حبس هذه النسخة محمد الهادي باشا باي وذلك على مكتبة العبدلية بالجامع الأعظم جامع الزيتونة وذلك سنة 1902,”اليوم السادس من شهر أكتوبر الإفرنجي ما يقابله 4 من شهر رجب 1320 هجري، وحرر العقد بقصر درمش” مع وجود لختم الباي أو طابعه على العقد.

– مخطوط “الاقتضاب في شرح أدب الكتاب” رقم 16412 حبس على مكتبة الجامع الأعظم من طرف المشير أحمد باشا، كما ذكر المالك الأصلي للمخطوط وهو”شيخ الإسلام الحنفي والمالكي سيدي إبراهيم الرياحي وذلك بتاريخ أشرف الربيعين بمولده عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم من عام 1268″ مع وجود خنفوستي الشهود وذكر القيمة المادية التي اشترى أو بيع بها المخطوط وقتها وهي أربعون ريالا مع وجود طابع أو ختم المشير أعلى العقد.

– مخطوط “مستفاد الرحلة والاغتراب” رقم 6451 من رصيد الصادقية, بآخره قراءة الشيخ عبد الحي الكتاني بفاس سنة 1341 هجري 1922 ميلادي, وكان استعارها من مالكها الأول الشيخ بلحسن النجار قبل أن تشترى لجامع الزيتونة.

– مخطوط “الأمالي” لأبي إسماعيل القالي رقم 16070 وهو من رصيد الأحمدية, تحمل أول ورقة بالمخطوط عقد حبس حيث حبس الكتاب على الجامع الأعظم من قبل المشير أحمد باشا باي وذكر مالكه الأصلي ألا وهو الشيخ إبراهيم الرياحي والمدة المرخص بها لاقتراض ومغيب الكتاب من المكتبة. وانعقد العقد بتاريخ أواخر ربيع الأنور بمولده صلى الله عليه وسلم  عام ثمانية وستين ومائتين وألف. كما ذكر تماما بنص العقد الذي ضم أيضا خنفوستي الشهود وطابع المشير أو حتى طابع المكتبة الأصلية أو الرصيد الأصلي الذي جاء منه المخطوط، ألا وهو من رصيد الأحمدية.

                                   

  • نوعية الكتابة أو الخط المعتمد في المخطوط:

      

امتازالخط الأندلسي بمصحفنا بالتحقيق حيث صحت أشكاله وحروفه[30]، ويقوم الخط الأندلسي عامة على نظام دقيق للتناسب يتجاوز النظام التقليدي للدائرة كأساس لبناء الحروف ليشمل الفراغات الحاصلة بين الأسطر والأحرف والحواشي [31].

ومن بداية مطلع المخطوط يتضح لنا أكثر أنها عيّنة ثرية جدّا على مستوى الخط المستعمل فيها، حيث يطالعنا في المطلع أو فاتحة الكتاب، كتابة كوفية ذات أرضية نباتية مما أكسبها طابعا معقدًا نوعًا ما.

وبالاطلاع على كيفية كتابة بقية عناوين السور القرانية داخل المخطوط تتوضح لنا أكثر نوعية هذه الكتابة، أو من أي الخطوط هي مستنبطة. و بملاحظة الشبه الكبير بين خط عينتنا وخط المصحف الأزرق نستطيع القول إن الخط الأندلسي قد يكون شكلا متطورًا عن الخط القيرواني الذي يعد بدوره مستنبطا عن الخط الكوفي القديم.

 

حتى وإن لم تكن فكرة كون الخط الأندلسي شكلاً متطورًا عن الخط القيرواني صحيحة مئة بالمئة، فلعل استعمال ابن غطوس نوعية هذه الكتابة له سبب مباشر ألا وهو التأثر بأعمال الوافدين على الأندلس من القيروان، إذ أن خطاطين ووراقين عدة هاجروا من القيروان إلى الأندلس ونقلوا معهم معارفهم أمثال الحارث بن مروان القيرواني وابنه يحي [32] وغيرهم.

ويتأكد أكثر وجه الشبه بين الخط القيرواني والأندلسي خاصة من خلال طريقة كتابة حرفي الصاد والكاف حيث حافظ الخط الأندلسي على طريقة كتابتها نفسها في الخط القيرواني حيث يكتبان باستطالة وتمديد ويكتسبان شكلاً مستطيلاً.

 

عدّ المقري في كتابه “نفح الطيب” الخط الأندلسي من فضائل الأندلس، وذكر عنه على لسان ابن سعيد “خط الأندلس الذي رأيته في مصاحف ابن غطوس، الذي كان بشرق الأندلس وغيره من الخطوط المنسوبة عندهم له حسن فائق، و رونق أخاذ بالعقل، وترتيب يشهد لصاحبه بكثرة الصبر والتّجويد”، وهذا ما لمسناه فعلا فالخط الذي خط به المصحف اتّسم بجودة وجمالية قلّ وجود نظيرهما في مخطوطات أندلسية أخرى مما اطلعنا عليه.

 

وامتازت أغلب المخطوطات الأندلسية من ناحية شكلها بالإتقان وحبكة الصنعة وجودة المواد المستعملة فيها, هذا ما ساعدها أكثر على تحمل تأثيرات الزّمن ومقاومتها, حيث لم تضعف كل العوامل التي تساهم في تلف المخطوط عادة كالرّطوبة أو غيرها من الكائنات الدّقيقة المتلفة للمخطوطات من رونق وجمال مظهر المخطوط الأندلسي. و تضافرت عوامل عدة لتجعل هذا المخطوط مميزًا شكلا إضافة إلى المحتوى القيم, بدء بالمواد المستعملة فيه وصولا إلى كيفية تنظيمه وحتى طريقة تزوقيه وتنميقه. ومخطوطنا كان خير شاهد على حنكة صانعه و ازدهار عصره، عصر أولى فيه أولياء الأمور قيمة كبرى لفن الكتاب شكلاً ومضمونًا، فتنافسوا في ما بينهم في التشجيع على صنعته وتنافسوا في اقتناء نوادره و دفعوا ثمنه أحيانا وزنه ذهبًا .

 

المصـــادر والمــراجع                                                                                       

ابن خلدون( عبد الرحمان),  المقدمة, المكتبة العصرية, بيروت.

البغدادي( أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي), كتاب معجم البلدان, مطبعة أكسفورد.

القلقشندي( أبو العباس أحمد)، صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، المطبعة الأميرية 1913م.

الحميري( أبي عبد الله محمد بن عبد الله المنعم)، صفة جزيرة الأندلس منتخبة من كتاب الروض المعطار في خبر الأقطار، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة  1937 .

المقري( أحمد بن محمد التلمساني)، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، دار صادر، بيروت 1968.

الجليطي ( علي)، الخطوط المغربية  و الأندلسية: قراءة  تشكيلية وجمالية، أطروحة دكتوراه، تونس 2010 م.

عبد الوهاب (حسن حسني), ورقات عن الحضارة العربية الإسلامية بأفريقية التونسية, مكتبة المنار .

فضائلي(حبيب الله )، أطلس الخط والخطوط، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر 1993.

قانصو(أكرم)، التصوير الشعبي العربي، إصدار سلسلة عالم المعرفة، العدد 203 ، الكويت 1995 .

مالدونادو (باسيليو بابون)، الفن الإسلامي في الأندلس: الزخرفة النباتية، المجلس الأعلى للثقافة 2002.

ستيبتشفيتش( الكسندر)،تاريخ الكتاب، إصدار سلسلة المعرفة.

 

François Déroche, «Le livre manuscrit Arabe, préludes à une histoire» BNF, collection conférences Léopold Delisle .Paris2005

Provençal-Lévi;  « histoire de l’Espagne musulmane», Editions G-P Maison neuve et Gié, Paris 1950

 

[1] François Déroche, «Le livre manuscrit Arabe, préludes à une histoire» B NF, collection conférences Léopold Delisle .Paris2005 ; Page67

 الرق هو كل ما يرقق من الجلد ليكتب فيه .[2]

[3] لمزيد التعرف على مختلف الأرصدة التي تضمها المكتبة الوطنية التونسية يمكن الاطلاع على مقال كتبه أبو الأجفان ₍محمد₎ بعنوان “وضعية المخطوطات العربية بتونس”، ̜المخطوطات العربية في الغرب الاسلامي وضعية المجموعات وآفاق البحث ̜ مؤسسة الملك عبد العزيز، الدار الببضاء̜1990.

[4] François Déroche, «Le livre manuscrit Arabe, préludes à une histoire» BNF, collection conférences Léopold Delisle ; page 77

[5]  ابن خلدون( عبد الرحمان),  المقدمة, المكتبة العصرية, بيروت, ص 392

 

[6] Provençal-Lévi;  « histoire de l’Espagne musulmane», Editions G-P Maison neuve et Gié, Paris 1950 ; page 313

 

[7]  عبد الوهاب (حسن حسني),ورقات عن الحضارة العربية الإسلامية بافريقية التونسية, مكتبة المنار , ص 161

 

[8]  القلقشندي( أبو العباس احمد), صبح الأعشى في صناعة الإنشاء, المطبعة الأميرية , ص 487

 

[9]  عبد الوهاب (حسن حسني), ورقات عن الحضارة العربية الإسلامية بافريقية التونسية, مكتبة المنار , ص 207

 

[10]  البغدادي( أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي), كتاب معجم البلدان, مطبعة أكسفورد , ص 235 .

 

[11]  عبد الوهاب (حسن حسني),ورقات عن الحضارة العربية الإسلامية بافريقية التونسية, مكتبة المنار , ص 166.

 

[12] Provençal-Lévi;  « histoire de l’Espagne musulmane», Editions G-P Maison neuve et Gié, Paris 1950 ; page 313

[13]  عبد الوهاب (حسن حسني) , ورقات عن الحضارة العربية الإسلامية بافريقية التونسية, مكتبة المنار , ص 161.

 

[14] ستيبتشفيتش( الكسندر)«تاريخ الكتاب» إصدار سلسلة المعرفة, ص. 220.

[15] مخطوط مصحف قرآن رقم 18791 محفوظ بالمكتبة الوطنية بتونس̜، الروقة الأولى.

 الأديم هو الجلد المدبوغ و القضيم هوالرق الأبيض.[16]

[17] ستيبتشفيتش( الكسندر) ,تاريخ الكتاب, إصدار سلسلة المعرفة العدد169 ,ص 212

 

[18]  المقري( احمد بن محمد التلمساني), نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب, دار صادر بيروت, ص. 611.

 

[19] François Déroche, «Le livre manuscrit Arabe, préludes à une histoire»BNF, collection conférences Léopold Delisle .Paris2005 ; page 89.

 

[20] François Déroche, «Le livre manuscrit Arabe, préludes à une histoire» BNF, collection conférences Léopold Delisle .Page 79

 

[21]  قانصو(أكرم)٬ التصوير الشعبي العربي٬إصدار سلسلة عالم المعرفة٬ العدد 203 ٬الكويت ٬ 1995 ص 38

 

 9الحميري( أبي عبد الله محمد بن عبد الله المنعم)٬ صفة جزيرة الأندلس منتخبة من كتاب الروض المعطار في خبر الأقطار٬ مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر٬ القاهرة ٬ 1937 .ص 21

[23] نفس المصدر̜ ص 57

[24]  نفس المصدر̜ ص 133

  [25]المقري (أحمد بن محمد التلمساني)، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، دار صادر، بيروت 1968 م،  ص. 201 .

قانصو(أكرم)، التّصوير الشعبي العربي …، مرجع مذكور ص. 31.

[26]

[27] مالدونادو (باسيليو بابون)، الفن الإسلامي في الأندلس الزخرفة النباتية، المجلس الأعلى للثقافة 2002م، ص. 81.

 

 مالدونادو (باسيليو بابون)، الفن الإسلامي في الأندلس الزخرفة  الهندسية، المجلس الأعلى للثقافة 2002، ص. 61[28]

 مالدونادو (باسيليو بابون)٬ الفن الإسلامي في الأندلس الزخرفة النباتية٬ مرجع مذكور.ص 66 [29]

 القلقشندي( أبو العباس احمد)، صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، المطبعة الأميرية، 1913 ص. 22.[30]

 الجليطي (علي)، الخطوط المغربية  و الأندلسية  قراءة  تشكيلية و جمالية، أطروحة دكتوراه، تونس 2010 ص. 348.[31]

 فضائلي(حبيب الله)، أطلس الخط والخطوط، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر ، 1993 ص. 145.[32]

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet