الكرطابــة

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0
بقلم: مهـاب لحبيري

 

هو رجل تعليمٍ منذ سنوات، وهي أمينة أسراره و أفكاره. بلغه أنهم سألوا عنها وما جاد لهم الفضول جوابًا. هو لا يريدها مثارًا للأحاديث، لكنه لم يغضب منها ولا منهم بتاتا. قيل له إنّهم همسوا دون خوف، وجهروا دون شجاعة عن تلك التي ترافقه في حله و ترحاله بين أمجاد الوطن و أوجاعه. ذكرها البعض بخير، وانهال عليها البقية بقذارات ألسنتهم. لم يعرهم اهتمامًا رغم أن الأمر لا يستوجب استكانة لم يجدوا لها تفسيرًا في قواميس الرّجولة. يحملها في أحضانه ويمر أمامهم دون خجل. قد يشتمه الكثير وقد يصفّق لجرأته البعض، ولكن السيل يخلّف وراءه دمار صبره حين يسمع أحدهم يطلب له الهداية.

 

ليست جميلة ولا مثيرة، ولكنّها تدير إليها الرّقاب غصبًا عنهم. هي غابة بلا أشجار رغم كثافة الأوراق ودندنة الحفيف. تسمع فيها الزقزقة والتغريد و لا ترى العصافير. هي شموخ لا قمة فيه ولا سفح، هي أنهار صامتة رغم السّيول الجارفة. هي زمجرة الرّعد من رحم اليوم المشرق، هي غيم يكتم شوق الودق لأديم الأرض التي أعياها الدّوس و الجفاف. هي أحاديث وأناشيد دون حنجرة تزوقها وتنضج لها لحنًا مستساغًا. هي موسيقى صامتة رغم العزف والعصف، وهي الربيع الضاحك رغم الغزير من المطر والشّديد من الجفاف. هي الصيف في عنفوان الصقيع وهي الشّتاء عند زمجرة الوهج. قد تكون خضراء كما سكينة العشب، سوداء كما هدوء الليل. زرقاء كما دغدغة الهمس، وقد تتخذ من البياض شيبًا يزيدها وقارًا .

 

المهم هي وردية في نظره كما الوقت الرائق الذي يمضيه في إطعامها. هي صحراء فسيحة بلا رمال تلاعبها الريح، وهي بحر بلا موج رغم الزّبد الذي ترسمه كل يوم. هي الصاحبة التي يركن إليها كل يوم يستجلي أحداثًا فارقة بين ثناياها، يهدهدها قليلاً كما الأم الرؤوم، يخاف عليها خدش المنضدة وجروح البلاط. يمخرها بدغدغة بسيطة بعربة إبهامه على قضبان شفتيها، لحظات وتهديه ابتسامة، فضحك، فقهقهة فكنوز يحير في انتقاء أثمنها. هي قباب المدينة المطلة على العابرين في ساحات أفكاره التي لا ينهيها سوى الليل، هي آخر من يراها قبل أن يهتف الجفنان نوما ويخمد الجسد و لا يهدأ الشخير.

 

كم تبقى حائرة نظراته أمام وابل الكرم الذي تجود به عليه مع كل إشراقة يوم جديد. تعد له دون ملل وليمة فاخرة داخل منضدتها، تجعله رغم الحيرة لا يستعجل البداية. كل الأطباق المرصوفة أمامه تدعوه للمرور عليها جميعًا. سيلتهم بعضها والبقية ستلتهمه. هي منضدة بلا ملاعق ترتشف الثريد ولا أشواك تناطح اللّحم، ولا سكاكين تنحر الثمار. سيأكل بعينيه من مطبخ القراءة وسيأكل بقلمه إذا كان الطاهي ماهرًا في إعداد وجبات الكتابة. هي منضدة لا صحون فيها تقطف الورد و لا كؤوسا تغرف القبلات. لا أواني تعزف الودّ، و لا أقداح تطلب العناق. هي منضدة تصبح فيها الأوراق أوان وصحونا وأقداحًا تتكفل بإيواء تفاصيل الوليمة داخل رقعتها الجغرافية. في أول المنضدة تتراقص أمامه أربعة أصناف من الورق، عذراء تنتظر الفكرة ومحصنة ذاقت الفكرة، ومطلقة لم تستسغ الفكرة، وأرملة ماتت فيها الفكرة.

 

هناك في وسط المنضدة كتاب الدّرس الذي سيعينه على صياغة نص صعوده على ركح الأحلام. تلك الأحلام التي يكتبها تلاميذه واقعا يريدونه مزهرًا رغم الشوك المسيطر على بوابات الضفاف. الرّكح والدّرس تركا المجال لامتحان عصارتهما، ومن ثمة تقييما تنزف أرقامه من قلم أحمر لا يعرف سوى هذه الحرب. قد يكون الصفر مزدانًا بالأسى، وقد تنعش العشرة ونيف آمالا كادت تتلاشى، وقد يبدأ حفل صاخب مع السّيدة عشرين. صولاته على المنضدة مازالت مستمرة حين حملته يداه إلى محطتها قبل الأخيرة. تطرح عليه الخيارات بكل ودّ، إما الصحيفة والخبر وإما الرواية و السّهر. اختيار تحت أنظار قهوة يحتسيها الشّغف، وعلى مرأى غمزات عتاة العبث. هي ملجأ القصائد التي تجاوزت مرحلة التّمزيق والنّصوص التي عبرت جسور الاقتناع داخله. هي الجبل الذي تعلمه الشموخ أمام الحصى.

 

المنضدة مازالت عامرة بالخيرات، تفيض الحروف وتقتلع الأرقام لها مكانا وتكتنز الرموز فرحة النجاح . المعادلات الرّياضية والنّظريات الفيزيائية والتّصميمات التقنية هي أيضا جديرة بمكان راق على المنضدة، كم أنكروا عليه تهافته على مسارب الأدب خصوصًا والثّقافة عموما وهو في الأصل تكنولوجي الهوى والتّكوين. هي لم تنكر بتاتًا هذا التداخل العجيل حسب مفاهيمهم البائسة. بل كانت أول الفاتحين لذراعيها لامتزاج العلم والأدب ورحبت بالجميع في بيتها العتيق…

هي “الكرطابة” التي عانت غضب الأستاذ ودروسه وجنون المثقف و خربشاته، هي التي تحمل داخلها الأمل بغد أفضل، هي التي تشقى من أجل جيل أرقى. هي العزاء لهموم الوطن وهي الزغاريد لأفراحه…

اليوم يمشي وحيدًا دونها، تعالى الهمس في الشوارع يستجلي غيابها عن حضنه. ليست على ما يرام حسب ما بلغهم من أخبار، تعرضت لعملية طعن غادرة استوجب نقلها إلى أقرب إسكافي، هي الآن تحت المراقبة، وتجاوزت مرحلة بعد أن خضعت لعملية ترقيع دقيقة …

 

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet