إلى ولـــدي

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

سما حسن

 

ولدي الحبيب الغائب: اليوم، أيقنت أنك قد غادرت إلى الأبد. لمست فراشك فوجدته باردا، وانتقلت برودته إلى قلبي. أعرف أنك بقيت تجاهد لكي تبقى على هذه الحياة من أجلي، وقد غادرت البيت آخر مرة من دون أن تنظر في وجهي. خفت أن تضعف لو نظرت في وجهي. وللحق أقول لك إنني كنت أشعر، في الأيام الأخيرة، بأنك قد ازددت جمالا فوق جمال وجهك الفتي. لست أدري أي نورٍ كان ينبعث من وجهك، حين دفنته في حجري. وكنت أريد أن أخبرك بذلك، ولكني خجلت. ربما راودني شعور كل الأمهات بأن قلبك يدقّ أول مرة لابنة الجيران، أو لإحدى فتيات قرابتك. ولم أكن أعرف، يا ولدي، أن قلبك يدق طلبا للشهادة في سبيل أجمل عروس. لم أكن أعرف أن قلبك يدقّ، ووجهك ينتعش، وتزداد نضارته؛ لأنك تستعدّ لتقدّم روحك مهرا لحبيبتك، حبيبتنا كلنا. سامحني، يا ولدي، الشعور المعتاد قد راودني، أن قلبي لم ينبئني أن عروسك تختلف، وربما لو أنبأني كنت سأتشبث بك، وأنت توصد الباب خلفك، كنت سأناديك بلوعةٍ فتتراجع، وكنت سأصرخ ببقايا ظلك خلف الباب، فتتخاذل وتعود، فأنت لم تكن قويا أمامي بتاتا، كنت قويا أمام كل الجبروت في هذا العالم إلا أمامي، يا طفلي الصغير.

 

ولدي الحبيب الغائب: كالعادة، تباطأت في ترتيب فراشك. أنت لا تعلم أنني لا أرتبه سريعا بعد خروجك من البيت. ربما أنا امرأة مهووسة بنصائح علم طاقة المكان. ولذلك، أنا أنفّذ إحدى نصائحه، وهي: لا ترتبي فراش صغارك بمجرّد خروجهم من البيت، لكي لا يفقدوا طاقتهم الإيجابية. تخيّل كم أحبك، يا صغيري، بحيث أنفذ نصيحة قادمةً من علم صيني قديم. لم أكن أفعل. ولكن يوم أن غادرت لكي تسافر، ولا موعد لعودتك، جلست طويلا فوق فراشك، كانت رائحتك عالقةً كالعادة. ورائحة قلقك كانت تغلب على رائحة عطرك وعرقك. كنت أعرف أنك قد قضيت ليالي طويلة مؤرّقة، وأنت تفكر برحلتك المقبلة، وبوعدك لي. لقد وعدتني ألا تركب البحر، وألا تستجيب لإغراءات تجار الموت. ولذلك، الطريق أمامك محدودة المنافذ، بسبب وعدك لي، لأني أخاف عليك من البحر الذي يبتلع أبناء الأمهات الصابرات الباكيات. تعرف، يا ولدي، أنني لم أعد أحتمل أكثر. ولذلك طلبت منك أن تعدني، وأن تحاول فوق أرض الله، وترمي البحر خلف ظهرك من أجلي، تحسّست فراشك، وقرّرت ألا أرتبه أبدا، لكي تبقى قويا ونشطا ومفعما بالطاقة التي تستمدها من رباطٍ لا مرئي من فراشك وغرفتك وبيتك، وزهور حديقة البيت، وأزقة الحي، وامتداد وطنك الكبير الذي تحبه وخذلك.

 

ولدي الحبيب الغائب: حاولوا كثيرا أن يخفوا عني الحقيقة، ولكني رأيتك في منامي قبل عدة ليالٍ. رأيتك تقع في البحر، ثم تصعد إلى السماء. تخيل أنني رأيت ذلك في لمحةٍ من منام أو صحو، ولذلك لم يكن صعبا علي أن أعرف ما يخفونه. تذكر أنك حين خرجت من باب البيت، لم تخبرني أنك سوف تهاجر وتركب البحر، وأوصيت صحبك، وكل من تعرفهم ألا يخبروني أنك على سفر. فقط قلت لي إنك ستخرج إلى عملك، كما كل فجر. لم أكن أعرف أنك قد جمعت ثيابك القليلة في حقيبةٍ مهترئة وجدتها أسفل فراش أبيك، تلك الحقيبة كان يحملها أبوك، حين يخرج إلى العمل، وأضع له فيها زوّادته، وكان يخرج فجرا كما تخرج أنت.

 

يبدو أن الفقر يورّث، والبؤس يورّث، يا ولدي. ولذلك، تركت المدرسة باكرا لكي تعمل، وتوفر لنا قوت يومنا، بعد أن نال المرض والكبر من أبيك، ومرّت سنوات عمرك، واقتربت من الثلاثين، وأنت لا تفعل شيئا لنفسك. لست أدري، يا ولدي، من أين جاءتك فكرة السفر. ولكنها تبدو الفكرة الأخيرة للمحبطين والمخذولين في بلادهم. ولذلك خرجت متسللا خوفا علي. ولكني عرفت. قلوب الأمهات لا تخطئ مصير أولادها، يا ولدي..

 

سما حسن:  كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.

 

 

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet