“الطّفل في المحــراب” للدّكتور حكيم الهرمي

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

 تقديم: الأستاذ منير بولاهمي

 

“الطّفل في المحراب” هو عنوان باكورة أعمال الدّكتور حكيم الهرمي الشّعريّة, وهو أوّل إصدار له جمع فيه باقة من قصائده وبعضًا من رسوماته، فمثل قصائده كمثل رسوماته تحتشد فيها العديد من الألوان الأدبيــــة والأغراض الشّعرية التي تعكس ثراء مطالعاته وتنوع أفكاره، وتنمّ عن روح يمتزج فيها النزق الرّومنطيقي في تفاعلاته العاطفية مع إيحاءات الطبيعة مستمدّا من مناخ مدينة جندوبة “جنّة دوبة” وعين دراهم جمال الجغرافيا وجمال التّاريخ.

 

وفي قصائده الشعريّة تتعدد الشخوص أو الشّخصيات، وتتّحد كلها في ” الطفل” عبر مراحل تطوّر حياته من مرحلة الطفولة إلى الشباب إلى الكهولة، وتتلون بتلوّن حالات هذا الطّفل، فهو الطفل الحالم وهو الطفل الحزين، وهو الطفل العاشق، وهو الطفل الجريح, فتتأرجح النّصوص الشعرية في نسق مضطرب توحي بأن ترتيب القصائد ينكر ارتباط الشّاعر بالزّمان والمكان في محاولة للانعتاق منهما، بحثا عن الصّفاء والنقاء والطّهر، فلم يجد إلاّ المحراب مهربًا وملجأ ومأوى، يأوي إليه في رحلة إثبات الوجود ونحت الكيان، سواء كان بالبحث عن الذّات أو البحث عن الشقّ الآخر، في رحلة تشبه رحلة أبي هريرة الوجودية في :”حدّث أبو هريرة قال…” للكاتب محمود المسعدي.

 

ها هو يقول في قصيدته الأولى “الطّفل في المحراب”: هُوَ ذَلِكَ الطِّفْلُ بِمِحْرَابِ عَيْنَيْ أُمِّهِ يَتَعَبَّدْ يَتَعَلَّمُ الفُصُولَ فَيَرْحَمُ الْخَيَالَ يَجْمَعُ مِنْ جُذَاذَاتِ صِبَاهُ قَصِيدَة ً، وَكُلَّمَا أَمْسَى اللَّيْلُ تَهَجَّدْ، فغدا المحراب في قصائد الشّاعر رمزا لكثير من المشاعر التي عاشها والمحراب، في معانيه الدينية والصّوفية يمثل مصدر الوحي الشّعري، فهو محراب الحياة، وهو محراب الحكمة، وهو محراب الخيال، وهو محراب الحبّ…على غرار صلوات أبي القاسم الشّابي في هيكل الحبّ.

 

ففي هذه الرؤية الإنسانية الوجوديّة تندرج تجربة الشّاعر في محاولته الأولى، فهي مخاض شعري في محراب الكتابة، خاصّة إذا علمنا أنّ الدكتور حكيم الهرمي قد بدأ مشواره الشعري في سن مبكرة وأغرم بالشّعر والشّعراء منذ سنوات الدّراسة الثانوية. ومع مرور السنوات راح يصقل تجربته الشّعريّة من خلال مطالعاته متنوعة المصادر الثقافية، وهو ما أثمر فيه ثراء تجلّى في أشعاره من خلال الجمل الشعريّة الإبداعية، والاستعارات، والصور الشّعرية العصريّة الجديدة، والمعاني المجازيّة.

 

وعلى الرّغم من أنّ أغلب أعماله قصائد حرة، أقرب ما تكون إلى القصائد النثريّة، نظرا لأنّ الشاعر ركز في نظمها على الإيقاع الدّاخلي أكثر من الإيقاع الخارجي دون أن ينفي ذلك توافق الكثير من قصائده لبحور الشّعر العربية المعروفة، ولكنّ البحر الشعريّ لم يكن يعنيه أكثر ممّا كانت تعنيه إيقاعات دُفُقاته الشعوريّة سواء أوافقت بحور الشّعر أم لم توافق، ممّا أنتج إيقاعًا خاصّا لقصائده خاصّة عندما يقرؤها بصوته. ولهذا يجد القارئ في التفعيلات والقوافي والرويّ لحنًا ينحو فيه الشّاعر منحى إيقاعيّا مدهشا يذكّر بالشّعر العمودي في جمال لفظي متميز ومعنى شريفًا في محاولة منه للاستجابة لعمود الشّعر، فكان شعره ” كلامًا موزونًا مقفى يدلّ على معنى إن زاد أو نقص أبانه الحسّ” على حدّ عبارة أبي العلاء المعرّي.

 

وربّما قراءة القصائد وتدبّرها والتعمّق فيها قراءة وتحليلاً تسعف كل قارئ بالتّأويل المناسب الّذي هو من حقّه، فما على الشّاعر إلاّ الكتابة، وما على القارئ إلاّ التأويل والتبئير، والغوص في أعماق الشّاعر الّتي يضيق عنها هذا التقديم. وليأخد القارئ بعين الاعتبار الترتيب الّذي اختاره الشّاعر لقصائده على النّحو التّالي: (الطّفل في المِحْرابْ، والْحُدْوةْ، والْقَاضِي وَالسَّجَّانُ، والمِحْرَقَةْ، و بُحيرة البَجَعْ، والمقبرة، والمدينة، والعنكبوت، والشّوق= الشوك وكبريت ليلة قارسة، وحواء، وشرف الوَردْ، و ليلَة بُكاءْ، ونَبْحثُ عن وطنٍ فينا، واليوم الأوّل… الأبد والحلْمُ يَصْنَعُنَا، و قال الفجْرُ: مَا أجْملَكْ، ولا حاجة للمعطف في الرّبيع المقبل، وشمعة أهل الكهف، ولغات العطر وغيابها، نقطة استفهام، واعترافات تحت الضمير، وشهوة اللوز، وأنا وأنت البقاء، وقلنا ولم نقل شيئا .

 

ويبقى ما قاله الشّاعر في هذه المجموعة الشعريّة قاصرًا عن قول كلّ شيء، فمازال في جعبته الكثير ليقوله على حدّ قوله في القصيدة الأخيرة ” قلنا ولم نقل شيئا”, فهل توصّل الشّاعر من خلال هذه التجربة الشّعرية الوجودية في محراب الكتابة إلى تحقيق الاستقرار والهدوء والرّاحة والسّعادة والطّهارة والنقاء؟ هذا ما نودّه له بكل صدق، وربّما هذا ما سنرى له صدى في قادم أعماله الشّعريّة والفنيّة الّتي نرجو أن ترى النّور قريبًا, فحظّا موفّقا للصديق الشّاعر حكيم الهرمي .

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

1 فكرة عن ““الطّفل في المحــراب” للدّكتور حكيم الهرمي”

  1. تم اليوم18مارس 2019 تكريم السيد حكيم الهرمي بمناسبة توقيع كتابه الطفل في المحراب بفضاء المكتبة الجهوية العمومية بجندوبة وقد كان الحضور متميزا وتم مناقشة العمل الشعري وقدمت في ذلك وجهات نظر نقدية متعددة ومتنوعة تناولت الشكل والمحتوى والتجربة الوليدة وقد تدخل السادة منير البولاهمي والأمين الكحلاوي وسالم الماكني وعمر السعيدي ونورالدين الصولي ومعز العكايشي وخليل المناعي وعبد الكريم العشي وطارق العمراوي وكثير من الحاضرين فأدلوا بدلوهم وتفاعلوا مع هذا العمل فمبروك للطبيب حكيم الهرمي
    تجربة الشاعر حكيم تندرج ضمن التجارب التي حاولت ان تعبر عن تحد صارخ للعالم في انتظامه فبعثرت حبات عقده رغبة في لفت الانتباه وسعيا لغعادة البناء والإصلاح والكشف عن مأساة الغنسان الذي صار يعيش الوحدة والعزلة فاختار للتعبير عن ذلك السكون علامة ورمزا يحيط بالشاعر كالطوق وهو يحاول أن ينطلق حرا طليقا لكن تحاصره الكلمات والآهات فلا ينفك عنها ولا تنفك عنه وهو يحاول ان يثور ضد الرتابة والمعهود والمألوف رتابة الكلمات ورتابة المعاني فيعيد ترتيب كلماته ويعيد خلق العالم من جديد ليشكل كونه الشعري
    ولقد اقتبس من القرآن رمزية القصة والحدث القصصي وهو توظيف للديني في الشعري وهذا يطرح جدلا حقيقيا هل شاعرنا من الغاوين أم من المبدعين وقد استطاع بهذا التوظيف أن يضفي نوعا من القداسة على نصه أو أوهم على الأقل بأن شعر يعالج مسألة وجودية هي ذاتها التي من أجلها نزل القرآن ولعل المحراب هو محراب التعبد على مر الازمان واختلاف الشرائع
    أما حضور المرأة فنوعي ثنائية الرجل المرأة نواة الوجود والكون لايخلو منها شعر ولا وجود وكذا في ديوان حكيم الهرمي فالمرأة سديم الكون وروحه ومعناه فكيف صاغ الشاعر صورتها أكما عهدناهها في الموروث الثقافي والديني أم نجح الشاعر في غعطائها صورة جديدة مفارقة للمعهود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet