بورقيبــة والزّيتونيّــون- خطــوط عريضـة

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلـم: د. محمـد الحبيب الهيلة

 

إنّ الحديث عن العلاقة بين بورقيبة – الزّعيم، ثم رئيس الدّولة – وبين العنصر الزّيتوني لا يجب أن تتأثر بعوامل الانتساب الحزبيّ الدّستوري أو بعوامل الانتساب الزّيتوني، وإنّما يجب، قبل كلّ شيء أن يصدر عن نظر تاريخيّ واعٍ وقراءة نزيهةٍ للأحداث والتّطورات والنتائج. فإنّ التفسيرات التّاريخية المتأثّرة بمؤثّرات الانتساب الحزبي والخاضعة لعوامل سلطة الدّولة، أو تلك المتأثرة بعوامل سلطة الغرض والانتماء لحركات معارضة لا يمكن أن تكون صحيحةً ولا مقبولةً لدى الأجيال القادمة التي سيكون حسابها عسيرًا.

 

ألا نرى أن أغلب ما كتبه الزّيتونيون – على قلّته – في التفسير التّاريخي لصراعهم مع المنهج البورقيبي، لا يصمد أمام النّظر الصّواب والوثائق العديدة، كما أنّ أغلب ما كتبه أنصار المنهج البورقيبي – على كثرته – في تفسير نفس الصّراع لا يثبت أمام النّظر الصّواب والوثائق الدامغة. فإنّ التّاريخ الحقيقي الذي يصمد فيتعايش مع الأجيال ويبقى في ذاكرتهم ويحرّك انتماءهم للوطن هو ذلك الذي يُكتب بعيدًا عن سلطة الحكم ومحرّكات الأطماع، بعيدًا عن سلطة المعارضة والتطرّف ومحركات الأحقاد.

 

وبهذه الأسس وعلى هذه القواعد يمكن أن نتحدث عن موضوع بورقيبة والزيتونيّين. ولقد أضفت إلى هذا العنوان عبارتي “خطوط عريضة” لأني لا أدعي أني سأتحدث عن هذه العلاقة والصراع بين الطرفين اللّذين تعايشا في احتدام أكثر من نصف قرن مع اتّساع مواده وترامي أطرافه.

 

يرتبط الحديث عن الزّيتونة في القرن العشرين بالحديث عن الحزب الدّستوري القديم، لأن الحزب كان إفرازا طبيعيّا لحركات الإصلاح التّونسية الأولى التي كانت بدورها إفرازًا طبيعيّا للزيتونة عندما كانت هي المؤسسة التّعليمية الثّقافية والدّينية القائدة للمجتمع التّونسي بجميع طبقاته وفصائله. كما يرتبط الحديث عن بورقيبة وجماعته بالحديث عن الجيل الأول الذي أنجبته المؤسسة التّعليمية الجديدة التي وضعها الفرنسيّون المستعمرون، ورتبوا برامجها وأهدافها، وقام المدرسون الفرنسيّون بتدريس أغلب موادّها ومقرّراتها. فكان بورقيبة وجماعته من بين أوائل خرّيجي الجامعات الفرنسيّة الذين يعودون إلى الوطن ليغيروا فيه الأسس الفكريّة السّابقة ويستبدلوها بأسس فكريّة حديثة تساير العصر وتطوّراته الحضارية.

 

لذلك نرى أن موضوع بورقيبة يرتبط من قريب بترايخ الحركة الوطنية التّونسية وبالصّراع بين الحزبين القديم والجديد، وبقناعات بورقيبة بالنّمط الذي يجب أن تكون عليه البلاد بعد الاستقلال، كما يرتبط بنظرة بورقيبة للحضارة الإسلامية وبموقفه من الدّين الإسلامي وبالخصائص الدّقيقة والثّورية التي تميز شخصيّته. وهي موضوعات جديرة بالدّراسة، إلا أنها ليست من مجالات حديثنا هذا.

 

لقد عادت المجموعات الأولى من خريجي الجامعات الفرنسيّة وهي مقتنعة بأنّها النّخبة التّونسية الوحيدة التي لها أولويّة الإصلاح والقيادة، وأنّ عليها أن تغير المجتمع وأن تضع له أسسًا فكريّة جديدة. وكانت المجموعة الزّيتونية في أول الأمر ترى في هذه النّخبة العائدة من فرنسا سندًا في الوطنيّة ومُعتمدًا في الحفاظ على الشّخصية التّونسية ومعينًا لها في الإصلاح والتّغيير.

 

وكان بورقيبة مقتنعًا بوجوب التّغيير، كما كانت العناصر الزّيتونية – في أغلبها – مقتنعة بوجوب التّغيير، ولكن الاختلاف بينهما هو كيف يكون التّغيير؟ هل يكون بإصلاح التّعليم الزيتوني وتعصيره والتّمسك بالمظاهر والمبادئ الإسلامية والانتماء إلى الحضارة الإسلامية، والتّركيز على استعمال اللّغة العربية لغة للدّراسات جميعها علميّة كانت أو أدبيّة؟ وهو خيار الزّيتونيين. أو يكون ذلك التّغيير بالسعي إلى جعل التّعليم التّونسي “عصريًّا” فرنسي اللّغة العلمية، يغرس المناهج الفكريّة الغربية وسلوكها ويهمل الكثير مما تعوّد الشّعب التونسي أن يعتبره أسسًا وأصولاً ومظاهر إسلامية، فتنقل صورة التّعليم الفرنسي إلى المجتمع التّونسي لينتج أجيالاً عصريّة؟ وهو الخيار البورقيبي.

 

وهكذا كان الخطان متعارضين متعاكسين يرمي كلّ منهما إلى غايات تخالف الآخر، فكان من الطبيعي أن يحتدم بينهما صراعٌ طويلٌ يمكن أن نقسّمه إلى فترتين زمنيّتين، تميزت كل واحدة منهما بخصوصيات تستجيب للأوضاع السّياسية.

الأولى: من نشأة الحزب الحر الدستوري الجديد سنة ١٩٣٤م إلى سنة ١٩٥٦م.

الثّانية: من سنة الاستقلال ١٩٥٦م إلى سنة انعزال بورقيبة ١٩٨٧م.

ففي الفترة الأولى استطاع بورقيبة الزّعيم الذّكي المراوغ، أن يجمع حوله بعض المثقّفين من ذوي التكوين الغربي مثله ليجعل منهم الإطارات الحزبية العليا والوسطى، وانتقل بعد ذلك إلى المستويات الشّعبية المحدودة الثّقافة التي لم تكن تتفاعل كثيرًا مع خطاب الحزب القديم في لغته الأنيقة البارعة، ووجدت في الخطاب البورقيبي بلغته العامّية ما تفاعلت معه والتهبت مشاعرها به وانسلخت عن الحزب القديم لأسباب عديدة. ولم يلتفت بورقيبة إلى العنصر الزيتوني إلا بعد أن هيّأ أرضية واسعة من الطبقات الشّعبية، وجمع حوله رصيدًا كافيًا من المثقفين خريجي المؤسسات التّعليمية الفرنسية.

 

وكان الوضع دقيقًا أمام بورقيبة لاستدراج الزّيتونيين وإغرائهم بالانخراط في حزبه الجديد. فقد كانت مؤسّستهم الزّيتونة تفرز طبقة مثقّفة تفهم جيدًا الخطاب السياسي الذي يلقيه زعماء الحزب القديم وخاصة الثّعالبي، والتكوين الزّيتوني يتماشى ويتلاءم مع أسسه الفكريّة وخياره المعارض للخيار البورقيبي، فكان على بورقيبة أن يدخل القلعة وينتزع منها ما قدر عليه من العناصر، فاغتنم فرصة وجود مواطن خلل كبيرة في هذه القلعة الزّيتونية ومنها نفذ. وأولها اختلافات ومزاحمات بين العائلات العلمية، فاستدرج بعضهم للانخراط في حزبه آملين أن يجدوا منه قوّة تصارع العائلات المناهضة.

 

وثانيها شيوع عنصرية “البلديّة” (المنتسبون إلى مدينة تونس) واستفحالها في إطارات التّعليم والعائلات العلميّة، حتى كادت أن تكون وظائف الزّيتونة – وهي قليلة – حكرًا عليهم ممّا يوجد في الطلبة الزيتونيين ثورةً على هذا الوضع ويدفعهم إلى ردة فعل معادية للمؤسسة والقائمين عليها دون أن يستطيعوا الخروج منها لأنّها خيارهم الوحيد، فاحتضنتهم الدّعوة البورقيبية التي تعتمد التّشهير بالعنصرية “البلدية” إذ وجدوا في الحزب الجديد مجالاً يفتح لهم الأمل لإبراز مكانتهم والتّعبير عن شخصياتهم وتطلعاتهم الطبيعية الشّرعية. كما وجدت بعض العناصر الزّيتونية في الحزب مجالاً متسعًا لتكريس ميولهم العنصريّة الجهوية التي كادت تعمّ جميع جهات وآفاق البلاد التّونسية.

 

وإضافة إلى ذلك فإنّ الخطاب السياسي البورقيبي كان شديد الحذر في تناول قضايا الخلاف بينه وبين القناعات القوميّة والدّينية عند الزيتونيين، فقلّما يصدر عن بورقيبة ما يكشف عن حقيقة مواقفه الدّينية التّحررية، وما يترجم عن يقينه بعدم جدوى التّعليم الزّيتوني وعقمه، واعتقاده أنّ هذا العنصر لا يمكن أن يكون له موطن قرار وقيادة في المجتمع التّونسي الذي كان بورقيبة يأمل أن يؤسس فيه دولته العصرية. ولعلّ دراسة قوائم أسماء الدّستوريين الجدد من الزّيتونيين في المرحلة السّابقة للاستقلال تقوم خير دليل على ذلك.

 

وجاءت حوادث التاسع من أفريل ١٩٣٨ لتلهب مشاعر الزّيتونيين فخرجت مظاهرتهم الكبرى التي قدموا فيها الكثير من ضحاياهم، وكانوا هم حطب وقودها لأنها فرصتهم المترقّبَة لمواجهة الاستعمار. وكانت هذه الحوادث من أهمّ عوامل انتشار الميل الزيتوني إلى الحزب الجديد، فأدار الكثير منهم ظهره إلى الحزب القديم الذي لم يجرأ على مواجهة الاستعمار في معركة ذات بال.

 

وعلى رغم كلّ ما بذله الحزب البورقيبي من جهد لاستعادة الزّيتونيين بعد الحرب العالمية الثانية، فإنه لم يستطع أن يبسط مظلته على غالبية الطلبة، فاستعمل طرق المجاملة والتسلل في التّجمعات الزيتونية التي أنتجت جمعيّة الحي الزّيتوني في سنة ١٩٤٧م، ثم لجنة صوت الطالب الزيتوني في سنة ١٩٥٠م، فوجدتا من الشّعب التونسي كل تشجيع وإنفاق وحظيتا من المواطنين – دستوريين وغيرهم – بكل رعاية وعناية، وأصبح وجود الزيتونيين بارزًا في المجتمع التّونسي، وظهرت أسماء بدأت تلمع في الحركة الوطنيّة والعمّالية، وكان الشّيخان محمد الفاضل بن عاشور ومحمد الشّاذلي بن القاضي من جماعة مؤتمر ليلة القدر سنة ١٩٤٦م وألحقا بالدّيوان السياسي، ثم أقصيا منه بعد سنتين فقط لظهور خطابهما الذي تشتمّ منه رائحة الإسلام والعروبة.

 

وحالما تأسست لجنة صوت الطالب الزيتوني اشترك فيها بعض الدّستوريين الجدد وأقل منهم الدستوريين القدماء، أما أغلب أعضاء مؤسسيها فكانوا متحرّرين عن الحرب يخاطبون الطالب الزّيتوني بما يعبر عن آماله وآلامه، ويشتركون معه في أمسه ويومه، فكانوا يلهبون مشاعره بخطبهم البارعة، فولدت وحدة طلابية زيتونيّة ترفض علنًا الانتساب للحزب حتى تبقى حركتهم طلابية خالصة. إلاّ أن ذلك ما كان ليرضي الحزب الدّستوري الجديد، فحاول استمالتهم بالمجاملات التي بلغت أحيانًا حدّ النفاق، فهذا بورقيبة يستغلّ وفود لجنة صوت الطالب ويخطب في جامع الزّيتونة، وهذا الزعيم الكبير صالح بن يوسف يخطب في جامع الزّيتونة فيقول مخاطبا الطّلبة “إنّ رسالة جامع الزيتونة كعبة الشّمال الإفريقي التي تنشدونها اليوم هي عماد كلّ قوميّة صحيحة”. وكأنّه ليس هو الذي رُوي عنه أنه كان يقول في المجالس الدّستورية الخاصة “إنّنا بمجرّد حصولنا على الاستقلال سنضع مفاتيح جامع الزّيتونة في متحف باردو الأثري”. وهذا محمود المسعدي يكتب في جريدة “الزّهرة” فيعبّر عن اهتمام الاتحاد بمستقبل الثّقافة العربية الإسلامية ومطالبته بتعريب التّعليم حتى يعود للثّقافة الإسلامية مكانها الطّبيعي في بلاد عربية إسلامية، وكأنه ليس محمود المسعدي الذي عُرف في ما بعد.

 

ولم يطل هذا الغزل الذي كان الكثير من الزّيتونيين يعرفون حقائقه وخفاياه المتأثرة بالحزب فتفصل عنهم المد الشعبي والتشجيع الاجتماعي.  وبدأت أخطاء الزيتونيين تتوالى. فقد كان رفضهم لولاية الحزب وقحًا وجريئًا في نظر الدستور الجديد، وهو عمل غير مسؤول في الواقع لأنّهم كانوا على جهلٍ تامّ بما في جعبة الحزب وما يمكن أن يعد لهم من مناورات وحروب دعائيّة ويدوية. وأضافوا لذلك أخطاء أخرى كقبولهم ظهور ميليشيا طلابية زيتونيّة قليلة العدد لمواجهة السواعد المفتولة، وبدأت الأفواه تتناقل أخبار البطولات من الجانبين كلّ حسب منهجه. ودق ناقوس نهاية المعركة حين حدث تقارب بين بعض أعضاء لجنة صوت الطّالب وبين الحزب الدّستوري القديم.

 

في هذه الفترة انطلقت معركة الحزب ضد الاستعمار فكفّت الأيدي واتجهت جميعها إلى مواجهة المستعمر، تلك المواجهة التي وقف فيها الطلبة الزيتونيّون مواقف سوف تظهرها الرّوايات التّاريخية إذا ما أعيدت قراءتها.

 

وتأتي الفترة الزّمنية الثّانية التي تمتد من سنة ١٩٥٦م سنة الاستقلال إلى سنة الانعزال ١٩٨٧م. وصل بورقيبة إلى الحكم فكانت نشوة النّصر تدفعه إلى التهام معارضيه وأعدائه. وكان من الخلاف اليوسفي ما قدم للزّيتونيين درسًا وخاصة لبعضهم الذين ناصروا صالح بن يوسف وللبقية الذين رأوا كيف استطاع بورقيبة أن يمحق الحركة اليوسفية التي استمالت الزّيتونيين وحركتهم بخطابها العربي الإسلامي الجديد، فظهر ذلك في مؤتمرهم الزّيتوني الثالث، وكانت هزيمتهم مرتبطة بهزيمة اليوسفيّة، فخفتت الأصوات وبردت الزّعامات وتشتتت الجماعات.

(يتبـــع)

المصـــدر: الحبيب بورقيبة وإنشـاء الدولة الوطنية: قراءات علمية للبورقيبـية، مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، زغوان-أفريل 2000م.   

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet