العرب وسقــوط الدّولة العثمانـية 

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلم: مصطفى الستيتي

لا شكّ أن سقوط الدّولة أو الخلافة العثمانيّة، والذي يصادف ذكراه يوم 3 مارس من كلّ عام، يعدّ حدثًا فارقًا ومفصليّا في تاريخ العرب والمسلمين جميعًا. وتتأتى أهمّية هذا الحدث واستثنائيّته من كونه أدخل العالم والمنطقة جميعًا في مرحلة من التّطورات والتّوترات لم تتوقف حتّى اليوم. ومن ناحية ثانية، فمنذ قيام الخلافة الإسلامية الأولى ممثلة بالخلافة الرّاشدة مرورًا بالدّولة الأمويّة والعبّاسية والعثمانيّة هذه هي المرّة الأولى التي يبقى فيها المسلمون بلا كيانٍ واحد يجمعهم ودولة واحدة تدير شؤونهم. فبسقوط الخلافة العثمانيّة تمزّقت أراضي العرب والمسلمين وتنازعتها القُوى الاستعماريّة الكبرى. بل إنّ أكثر مناطق العالم توتّرًا اليوم وأكثرها تفجرًا بالنّزاعات هي المناطق التي كانت محتلّة من قبل تلك القوى الاستعماريّة.

فبينما كان المواطن العربي في يوم من الأيام يتنقّل دون حواجز ولا حدود من المغرب الأقصى إلى بغداد، أصبح اليوم غير قادر على الانتقال من بلاده إلى البلاد المجاورة إلاّ بشروط وجوزات سفر ، وأحيانًا لا يأمن على نفسه السّجن والاعتقال بسبب الخلافات البينيّة المزمنة بين الأنظمة العربيّة المختلفة. ولسنا هنا في موقف المادح للدّولة العثمانيّة ولا المدافع عنها، ولكنّنا نورد حقائق وأحداثًا نشاهدها اليوم بأعيننا ونعيشها بأنفسنا. وهي إفرازات ونتائج حقيقية ملموسة لانهيار هذه الدّولة التي عمّرت نحو ستة قرون من الزّمن.

 

ولئن بدأت الهجمة الاستعماريّة في العالم العربي مبكّرًا مع احتلال الجزائر عام 1830م ثم احتلال تونس ومصر بعد ذلك بنصف قرن فإنّ سقوط الدّولة، والذي بدأ بشكل فعليّ مع إزاحة السّلطان عبد الحميد الثاني من الحكم كما يرى كثير من المؤرّخين، قد سرّع من وتيرة ضياع الأراضي العربيّة والتهامها من قبل القوى الاستعماريّة الكبرى ممثلة خصوصًا في فرنسا وبريطانيا وإيطاليا. وقد كان احتلال فلسطين من قبل اليهود بتحريض من الحركة الصّهيونية العالمية، وإنشاء دولة يهوديّة فيها من التّداعيات الكبرى التي مازالت الأمّة العربية والإسلاميّة تدفع فواتيرها حتّى اليوم.

 

يصعب القول اليوم إنّ الدّول العربيّة- والتي كانت كلّها تقريبًا أجزاء تابعة للدّولة العثمانية المنهارة- دولٌ مستقلة وتمتلك قرارها بيدها، فقد ظلت لوقت طويل تابعة لأحد المعسكرين إمّا الشّرقي السّوفياتي وإمّا الغربي الأمريكي- الأوروبي. ثمّ على إثر انهيار الاتّحاد السوفياتي أصبحت خاضعة بأشكال متفاوتة للنّفوذ الأمريكي البريطاني الفرنسي. ويمكننا أن نلحظ ذلك من خلال السّياسات الارتجالية التي تُتخذ في حكومات هذه الدّول، وفي تذبذبها في اتخاذ القرات، بل وفي وقوفها في أحيان كثيرة ضدّ مصالح شعوبها وقضاياها إرضاء للأطراف الكبرى التي تتحكّم فيها من وراء ستار.

 

لم يعد ذلك خافيًا اليوم، وربّما كانت الثّورات التي قامت في كثير من هذه الدّول العربيّة تعبيرًا عن التّناقض الحادّ بين إرادات الشّعوب وبين سياسة حكوماتها، فكانت هذه الثّورات الشّعبية رفضًا لهذا الانقياد وهذه التّبعية لإملاءات الدول الكبرى ومصالحها. بل إنّ ثمّة من يرى أنّ هذه الدّول العربية لم تتخلّص في الحقيقة من الهيمنة الأجنبية إلا شكليًّا، بعد أن انسحبت الجيوش والدّبابات من أراضيها، أمّا الإرادات فما زالت مُرتهنة بيد القُوى الأجنبية التي مازالت تتحكّم في مصائرها ومصائر شعوبها.

 

لا يمكننا اليوم فهم طبيعة ما يجري من تحوّلات كبرى في الجغرافيا العربية وفي السّياسة الإقليمية والدّولية دون إدراك عميق للأحداث التي سبقت انهيار الدّولة العثمانية، ودون وعي بطبيعة الأحداث التي أعقبت هذا الانهيار. فلا يمكن فهم الحاضر الذي نعيشه اليوم دون العودة إلى ذاكرة الماضي، ودون التّنقيب في المدوّنات والوثائق الأرشيفيّة المحفوظة في كثير من أرشيفات العالم وخصوصًا منها الأرشيف البريطاني والفرنسي والتّــركي والأمريكي والهندي والبرتغالي. فحدث انهيار الدّولة العثمانيّة حدث خطير واستثنائي بكلّ المقاييس، ولذلك يتعيّن على الباحثين العرب إيلاءه ما يستحقّ من عناية وبحث ودراسة بعيدًا عن أيّة اعتبارات سياسيّة أو إيديولوجيّة.

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet