قصــة القَصعــة العُــود والمَثـرد والغُنجَايــة 

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 1

بقلـم: بوجمعة الفيالي

 

لقد عايشت وعاينتُ في مرحلة طفولتي خلال خمسينات القَرن الماضي فنّ صنع “القَصعة العُود” كما يسمّيها أصحابُها، وكانت في مراحلها الأخيرة. والمقصود بـــالقَصعة العُود أي القَصعة المصنُوعة من الخَشب، و “المَثْرَد” و “المِهرَاس” و “الغْنَاجي” (جمع غُنجايَة)، وهي الملعقة أو المغرفة بلغة اليوم.

ومن المهم الإشارة إلى أنّه لم يحذق هذه الحرفة اليدويّة الصّعبة بجهتنا في تلك الأيّام سوى قلة من النّاس كانوا يعدّون على أصابع اليد. وللعلم فإنّ خراطة “قصعة ” أو ” مثرد ” أو “زلفة” أو “مهراس” أو حتّى صنع ” غنجاية ” يدوياّ وبأبسط الأدوات المتاحة في ذلك الوقت، ليس أمرًا سهلا.، فلصنع تلك الأواني وجب توفّر ثلاثة أشياء أساسيّة، هي: حرفيّ حاذق ومحنّك، يكون قد أخذ تلك الصّنعة عن أجداده ومارسها مع والده لسنين طويلة حتّى برع في فنّ النّجارة والخراطة اليدويّة، وتمكّن منها جيّدًا إلى أن بات يُنادى عليه بلقب: ” اِمعلِّم”. حائز على الأدوات الكافية للخدمة التي ورثها عن أسلافه، وسوف نذكر أشهر هذه الأدوات.

متمكّن من معرفة أنواع الخشب الصّالح لصنع تلك الأواني، وذلك تطبيقًا للنّصائح المستمدّة ممن سبقوه في ممارسة تلــك الحرفة. فمثلاً لا يُستعمل خشب الزّان المعروف بالصلابة والثقل والنرفزة،فهو لا يصلُح للخراطة وصنع الأواني المستديرة لأنّه يتشقّق بسرعة وينفلق.

 

ينبغي أن يكون هذا الحرفي قد أخذ الصّنعة عن والده الذي مرّر إليه تقنياته وزوّده بالنّصائح وأعطاه ما يملك من أدوات النّجارة والخراطة اليدويّة، وعلّمه ممارسة تلك الحرفة على خشب معيّن مرارًا وتكرارًا، ولا يطلق سبيله ويتركه لوحده إلاّ إذا رآه قــد تمكّن من حذق حرفته واستكمال صنع أوانيه بالإتقان والحرفية العالية التي كان يترقّبها منه، مثل أيّ حرفي آخـــر قد ورث الصّنعة عن والده أو جدّه. فالنحّاس يعلم ابنه فنّ النّقش على النّحاس، والطرّاز يعلم ابنه أو حفيده عبقريّة الطّريزة، والشوّاش يعطي فن صنع الشاشيّة لابنه، والأمر نفسه بالنسبة إلى النّجار والحدّاد والحلاق … وهكذا تبقى الصّنعة حيّة على مرّ الأيام.

 

إذن، لا يستطيع وارث الصّنعة مواصلة المشوار إلاّ إذا ترك له والده، علاوة على المعرفة والحذق مُستلزمات العمـــل، أو ما يُسمى عند العامّة بــ: “مَاعُون الخدمة” أو “ماعون الصّنعة”، بمعنى أدوات الإنتاج. فهو بالنّسبة إليه أكبر حافز له على مواصلة العمل بروح التّفاني والإتقان اللّتين عهدهما لدى مورّثه. فلا بدّ من مسك أدوات الوالد التي تذكّره به، وتحفّزه على ممارسة حرفته المفضّلة على الوجه المطلوب.

 

ما هي الأدوات التي يرثها هذا الحرفيّ عن والده ؟

زيادة على المادّة الخامّ أو الأوّلية لدى صانع القصعة و المثرد والمعجنة و المهراس والغنجاية العود، فهو يمكّنه من المنشار الكبير (Scie passe-partout) الذي كان يقطع به أشجار البطّوم الضّخمة التي تصلح جذورها الكبيرة لصنع القصاع، وكذلك المنشار اليدويّ الصّغير المستعمل بكثرة المسمى بــ :”التّسترة ” ( Scie égoine , avec un “i” tréma ) . وهذا المنشار الخفيف صالح لقصّ أعواد القِيقَبْ والبُوحَدّاد والأنج والزّعرُور لصنع الغناجي. كما يحتاج صاحب هذه الصنعة لــ”القَادُومْ ” التي تستخدم في الخراطة.

ولصقل المنشار الكبير نستعمل المبرد المثلث ( Lime triangulaire ) من صنع فرنسيّ قديم جدّا، ولا ندخل في تعداد الأدوات العصريّة، فهي خارجة عن موضوعنا الذي يهتم أساسا بما هو تقليدي. ونحتاج في هذه الصّنعة كذلك لـ”المسن” لصقل الشَّاقُور والقَادُوم بحفية كبيرة … من هذه الأخشاب يَستخرج الحرفي المحنّك قصعته ومثرده ومهراسه وغنجايته ومُغرفه. والمُغْرف هو عبارة عن ” اِمْغَرفة كبيرة الحجم مصنُوعة من الخشب ( Une louche )

وقد كنت أشرت في مقالاتٍ سابقةٍ إلى أنّ ربة البيت في الرّيف كانت توفّر الكثير من هذه الأواني المصنوعة من الخشب إلى جانب ما تُمَلِّسُه هي، أي ما تصنعه من الطّين مثل “البُرمة والكَسكاس” و” القَدْرُوشة” التي تستخدم لتخزين السّمن والعَسل وحتى الزّيت. وتُستخدم القَدرُوشَة كذلك لتخمير الحليب وصنع اللّبن. كما أن المرأة الرّيفية تصنع قصعة الطّين و المَشْرب أيّ “التّبسي” المسمّى بعامّية اليوم بــ “الحلاّب. وهنا أقصد حلاّب الشّرب وليس حلاّب العصيدة.

 

طبعا أنا لا أحكي عن ريف اليَوم الذي تمدّن، وهو يجهل نمط عيش أجداده في الماضي إلا من رحم ربي، فلو سألت اليوم عن ” اللزوم ” و ” الشلو ” و ” والضبية ” و “التبسي ” والمحقان ” و “البرّادة” و”الرّشقــة” و “القـــرقور ” و “البيشــة ” و”الوصــــلة” و “الرّسوة” و”الصّنّاج” و “الربق”.. لو سألت شباب اليوم عن كل هذا ما أظن أنك ظافرٌ بأجوبة.

 

لقد عاش أجدادُنا الكرماء، وآباؤنا العظماء زمنا شحيحًا جدّا من حيث المصنوعات المستعملة في حياتهم اليومية، الشّيء الذي جعلهم يجتهدون في ابتكار أدواتهم وحاجياتهم اليوميّة الضّرورية لتوفير أبسط متطلّبات الحياة. وهنا أودّ أن أنبّه إلى الأمور التّالية: فما ذكرتُه لا يعدو أن يكون قطرة من بحر ، فنحن لدينا مخزون تراثي ثقافي ثري جدّا، وما ذكرت من تسميات للأشياء عن ريفنا الجميل ليست هي نفسها في كلّ الجهات، فهي قد تتغير من جهة إلى أخرى ومن ريف إلى آخر . ومن هنا وجب تدقيق البحث في التسميات والمصطلحات التي كانت تستخدم في أرياف الشمال التّونسي، وهو لعمري بحث مهمّ يحتاج عزائم صلبة وإرادة قوية لتدوين ما اندثر من تراث الأجداد الزّاخر.

 

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet