خيـر الـدين التونسي.. الوزيـر الذي أنقـذ تونس من الإفـلاس

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلم:فتحـــي الشوك

 

يعتبر الإصلاحي خير الدّين التّونسي أحد أهمّ أعمدة الإصلاح في تونس وفي العالم العربي والإسلامي خلال القرن التّاسع عشر، وقد اتّخذه البعض قدوةً ومثالاً ومرجعية مسندين إليه لقب “أبو النّهضة التوّنسية”، فهل كان تبنّي من جاء بعده من حداثيين لنهجه حقيقيًّا وصادقًا أم هو مجرّد مطيّة وتقيّة؟

 

سيـــرة ذاتيـة استثنائيّـة

ولد خير الدّين سنة 1820م في بلاد الشّركس، جنوب شرقي جبال القوقاز، اختطف صغيرًا ليباع في سوق الرّقيق في اسطنبول حيث اشتراه تحسين بك إلى حين بلوغه سنّ السّابعة عشر، ليشتريه مبعوث المشير أحمد الأوّل الّذي جلبه معه إلى تونس ليعزّز صفوف المماليك الموجودين في سرايا المشير. كان عصاميّا، انكبّ بمفرده على الدّراسة فأتقن التركية والعربية والفرنسيّة، وارتقى بسرعة في سلّم الرّتب

خيـــر الديـن التــونسي (1820-1890م)

العسكرية ليصبح أمير الأمراء (جنرال) سنة 1852م. اصطحبه المشير أحمد باي في رحلته إلى باريس سنة 1846م ليعود إليها مرّة أخرى، ويقضي هناك ثلاث سنوات (من 1853 إلى 1856م) لمتابعة القضيّة المرفوعة لدى المحاكم الفرنسيّة ضدّ ابن عيّاد، وفي الوقت نفسه استفاد من هذه الإقامة لمزيد التعرّف على أسس الحضارة الغربيّة الحديثة من أنظمة سياسية وإدارة ومؤسسّات دستورية.

 

ساهم في إصدار قانون عهد الأمان وتولّى رئاسة المجلس الكبير الّذي أقرّه محمّد الصّادق باي، والّذي أخرج أوّل دستور في تونس وفي العالم العربي والإسلامي سنة 1861م، هذا الدّستور الّذي تضمّن منع الرقّ في بادرة سبقت الولايات المتّحدة الأمريكية وبعض البلدان الأوروبية. تصادم مع الوزير مصطفى خزندار فاستقال ليعتني بشؤونه الخاصّة، وليهتمّ بإثراء زاده الفكري حيث كانت له نقاشات عميقة مع رواد الإصلاح حينها مثل الجنرالين حسين ورستم والزّيتونيين أحمد ابن أبي ضياف ومحمّد بيرم الخامس وسالم بوحاجب.

 

أصدر كتابه الشهير “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك” سنة 1867م، والّذي قال فيه المستشرق الألماني الرحّالة “هاينريش فرن مالتزن” إنّه أهمّ ما ألّف في الشرق في عصرنا هذا، وهو عبارة عن برنامج إصلاحي متكامل للنّهوض بالعالم العربي والإسلامي وتهيئته لدخول الحداثة دون التخلّي عن مقوّماته الذّاتية وهويّته وعقيدته، وقد اتّخذ مرجعًا وترجم إلى اللغات التركية والفرنسية والفارسية”.

 

عاد إلى السّياسة ليتولّى خطّة الوزارة الكبرى من سنة 1873 إلى سنة 1877م حيث كانت الإيالة التّونسية قاب قوسين أو أدنى من الانهيار لكثرة الدّيون نتيجة للفساد وسوء الإدارة والنّقص في الموارد البشرية إلى جانب مخلّفات ثورة علي بن غداهم سنة 1864م.

 

بادر بإعادة تنظيم الإدارة وإصدار حزمة من القوانين في إطار مشروع إصلاحي واعد تضمّن قانونًا لتنظيم الأوقاف، وإصلاح التّعليم الزيتوني وإنشاء مدرسة عصرية (الصّادقية)، وقانونًا لتنظيم القطاع الفلاحي، وبعث مؤسّسة للأرشيف لحفظ وثائق الدّولة، وقانونًا لعدول المنفّذين لتنظيم الملكيّة. كما عمل على إرساء الأمن والاستقرار، واهتمّ بالتّهيئة العمرانية للعاصمة واضعًا مخطّطا ابتدأ فيه لتعتمده فرنسا فيما بعد. وتمّ عزله من قبل محمّد الصّادق باي سنة 1877م بعد الدّسائس الّتي كانت تحاك ضدّه من قبل الوزيرين مصطفى خزندار ومصطفى إسماعيل.

 

ذاع صيت خير الدّين ما جعل السّلطان عبد الحميد الثّاني يستقدمه ليعيّنه صدرًا أعظم محاولاً الاستفادة من خبرته وسط المشكلات العويصة الّتي كانت تتخبّط فيها الخلافة العثمانية بعد حربها مع روسيا. وخلال مدّة تكليفه القصيرة (بعض الأشهر سنة 1878) تمكّن من حلّ الكثير من النّزاعات الحدودية مع روسيا وغيرها وكانت له إسهامات في عديد الملفّات الأخرى. وتوفّي سنة 1890م ليدفن بإسطنبول وليقع نقل رفاته إلى تونس سنة 1968م بناء على طلب من الرّئيس الرّاحل الحبيب بورقيبة.

 

إصـلاح خيــر الدّين والحداثيــون: امتـــداد أم قطيعــة؟

يدّعي الحداثيون المزيّفون، منظّروا وبناة الدّولة “الحديثة” بأنّهم امتداد للمسار الإصلاحي التّحديثي الّذي ابتدأه ووضع أسس لبناته خير الدّين، فكان أن وقع تذكّره في بعض المناسبات، وطبعت صورته على ورقة نقدية وبعض الطّوابع البريدية، دون نسيان المطالبة برفاته من قبل بورقيبة سنة 1968م لدفنه بتونس. ويبدو أنّ تلك المطالبة لم تكن رغبة صادقة في التّصالح مع التّاريخ، بل مجرّد حركة مزاجية للزّعيم تكشّفت بعد أن انكشف أنّ الصّندوق الذي يحوي الرّفات أُهمل في ركن في إحدى غرف الأرشيف الوطني لتردمه الأغبرة والأوساخ، ولم يتمّ دفنه إلاّ بعد أن أثار المؤرّخ الدّكتور التونسي عبد الجليل التّميمي الموضوع، دفن سرّا ولم نعلم مكان قبره إلاّ مؤخّرا (مقبرة الجلّاز بالعاصمة)، ذاك ما أكّده المؤرّخ الكبير في حصّة تلفزيونية منذ أشهر.

 

يقول الدّكتور المؤرّخ التونسي بلقاسم الحنّاشي في هذا الصّدد: “يعتبر خير الدّين التونسي مدرسة إصلاحية قائمة الذّات، وهو كتجربة وقع إجهاضها ومن يتّخذه زيفًا كمرجعية من مدّعي الحداثة كان لمجرّد الاستهلاك، فإصلاح خيرالدّين كان لما يعتقد أنّه خير للدّين، أمّا من يزعمون أنّهم ورثته من حداثيين مزيّفين فهم لا يرون أيّ خير في الدّين بل يعتبرونه عائقًا وجب تحييده وإزالته لإسقاط “مشروع” حداثة جاهز في تصادم مع السّيرورة التّاريخية”.

 

وبالعودة الى أهمّ الإصلاحات الّتي شرع فيها خير الدّين نرى أنّه حاول إصلاح التعليم الزّيتوني، وتحديث مناهجه في حين سعى الآخرون إلى تهميشه وتدميره، وهو أيضًا من قام بإصلاح نظام الأوقاف، في حين أنّ من جاؤوا بعده ألغوه بالكامل وتقاسموه كغنيمة بينهم حارمين آلاف المنتفعين به من المستضعفين، وهو ما جعل من أعلن ذلك سنة 1956م (السّيد مصطفى الفيلالي الّذي وافته المنيّة منذ أيّام، رحمه الله) يعتذر مؤخّرًا للشعب التونسي ويطلب المغفرة من الله ودموعه تنهمر، اعتذار مرّ مرور الكرام في ظلّ غياب أيّة نيّة للمراجعة أو نقد الذّات لتجربة فاشلة لم تنتج سوى الفشل.

 

حاول البعض تشويه خير الدّين باتّهامه بأنّه سرّع في استقدام المستعمر الأجنبي عبر بيعه لأراض تونسية لإيطاليين سنة 1871م، كما لامه آخرون واعتبروا أنه عثماني الهوى، مشكّكين في انتمائه الوطني، لكن يبدو أن العقدة الكبرى وسبب الحساسية المرضيّة تجاهه تكمن في أنّه إسلامي الهوى والمرجع، إذ تبنّى التّصوّر الإسلامي وسعى إلى الإصلاح من خلاله معتبرًا أنّ السّبب الرّئيس للانحطاط يكمن في الاستبداد الغريب عن الإسلام في أصوله، وأنّ مفاتيح النّهضة تتمثّل في التجديد والاجتهاد بما لا يخالف ثوابت الشريعة، وفي الحرّية والعدل كدعامتين أصيلتين في الإسلام.

 

هكذا كان إذن خير الدّين الّذي يعتبره المفكّر المؤرّخ التونسي هشام جعيط أحد أعمدة الإصلاح في العالم العربي والإسلامي، داعية للإصلاح الشّامل الّذي لن يتحقّق إلاّ بإرساء العدل ونشر الوعي واحترام الإنسان، واضعًا إصبعه على الجرح ومشخّصًا بدقّة ما نعيشه من انحطاط والّذي مردّه بالأساس الانفراد والاستبداد وغياب المؤسّسات المراقبة لمن يحكم. كم نحتاج لخير الدّين لخيري الدّنيا والدّين.

 

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet