في العلاقــة بين الفكــر والعـمل

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلم: حســن بن حسـن 

 

غاية تجديد العلم هي تجديد العمل، فالعلم هادي العمل، وكل انكشاف جديد لباب من أبواب العلم النافع انفتاح ضمني لباب من أبواب العمل، غير أنّ توجيه العلم للعمل في الأفعال المركّبة الكبرى السياسية والحضاريّة ليس من جنس التّطبيق الفوري، ولكنّه افتتاح لمسارات تأهيلية بعيدة، التّوجيه العملي هنا يتخذ صورا أكثر تعقيدا، ويتم من مسالك كبرى ثلاثة:

 

أ- المسلك المعرفي الأول للتّوجيه العملي هو الوعي التاريخي، والوعي التاريخي وعي بالانتماء للعصر أو أنه، بأكثر تفصيل تحصيل للقدرة المعرفية على التقاط الفرصة التي يعرضها التّاريخ لأداء دور ورسالة، وهو بهذا المعنى مزيج من الاستجابة للبواعث والدواعي التاريخية للتفكير والتّغيير والتصيير، ومن رفع لمستوى قراءة الذات الحضارية عن طريق اكتشاف الذات وتحرير ممكناتها الزمنية الملموسة. وهو أيضا قدرة على فهم الحاضر وقاءته داخل مشهد تاريخي أعم، أو لنقل إنه وعي مشهدي بقانون نضج الفكرة أو الصّورة الفلسفية التي نحملها عن أنفسنا، وبمراحل صنعها لعالمها التاريخي ولعالميتها. وأخيرا فإن الوعي التاريخي كإرادة للتصيير وكتأويل لحاضر ومستقبل البشرية لا يمكن إلا أن يكون استصحابا لدرس التّاريخ في تنوع روافد التغيير وفي محــدودية أي إرادة لصنع المستقبل والسيطرة على كنهه.

 

وهكذا فإنّ التّوجيه العملي، أي توجيه العلم للعمل في هذا الباب يتم من خلال تجديد الوعي الذاتي بالاستجابة للدّواعي الزّمنية للتفكير والتّغيير، ومن خلال وعي قانون تشكل الفكرة ونضجها ومراحل صنعها لعالمها التاريخي، ومن خلال استصحاب درس التّاريخ في التغيير، و في مصير التطلعات والأحلام الجماعية.

 

ب- وأمّا المسلك المعرفي الثّاني للتّوجيه العملي فهو التشكيل الطليعي لعالم النخبة، فالتجديد ليس فكرة على الرف، ولكنّه إشعاع الفكرة عن طريق صنعها لنخبتها، أو لنقل إنه تشكل لنخبة فكرية نشيطة حول فكرة مشعة واعدة، وهو بهذا المعنى آصرة فكرية ومركز قوة وجوديّة مشع. ها هنا تصبح النخبوية طليعية و تدخلاً في نحت المصائر الكبرى وقيادة معنوية للتّغيير الاجتماعي والحضاري وحاضنًا نقديّا لحاجة إرادة الإصلاح لتجديد صورتها عن نفسها.

 

والتّشكل الطليعي للنّخبة متعذّر دون التّبادل الواسع بين الأفكار العالمة والحساسية العامة، أي دون انفتاح الأفكار العالمة ودلالة العلم نفسه للحساسيّة العامة صعودًا وعثورها على وسائط التأثير فيها نزولاً، لذلك فإنّ التجديد فكرة تصنع وسائطها التواصلية، فكرة تنتشر وبانتشارها يتغير نسيج الثقافة والاجتماع.

 

كما أن هذا التّشكل متعذر أيضًا دون التبادل الواسع بين النخبتين السياسية والثّقافية، التّبادل الذي يمد السياسة بأسباب الحياة و ينتشلها من العرضية والغرق في الآني والتدبير اليومي ويشدّ الفكر إلى بواعثه التاريخية ويمنحه قوّته العملية. هذا يعني أنّ التّشكل الطليعي للنخبة وما يستتبعه من تبادل بين الأفكار  العالمة والحساسية العامة وبين النخبتين الثقافية والسّياسية داخل في ماهية التجديد والتّنوير وليس إضافة خارجية له.

 

ج- وأما المسلك الثالث للتّوجيه العملي للفعل الحضاري فهو بناء القدرة المعرفيّة الاستراتيجية على ترجمة الاختيارات الأساسية والتّطلعات المستقبلية إلى مبادرات عملية، و القدرة على المبادرة بهذا المعنى ليست لهاثًا وراء الآني والجزئي، ولا غرقًا بدون أفق في دوامة التّدبير اليومي، ولكنّها اقتدار على افتتاح مسارات مستقبليّة بعيدة، وعلى تحويل غير المقدور عليه إلى مقدور عليه في أمد زمنيّ مناسب، وعلى تحويل الفعل إلى استراتيجية للفعل، أي إلى خطة لتذليل العقبات و تخطّي الموانع وتحرير الممكنات. وجهة المبادرة هي زيادة القدرة على الفعل والسّيادة على الممكنات الذاتية والتّمكن من مفاتيح الوضعية التّاريخية، أي مفاتيح التوجيه العملي نحو المستقبل.

 

وهي بهذا المعنى ملتقى التطلع و الحلم بالمحددات الموضوعيّة للواقع (ما أقدر وما لا أقدر عليه) ووجهتها هي تحويل حدود القدرة والاستطاعة، وهي إلى ذلك تغتني بغنى الفكرة التي تترجمها وتفقر بفقرها وتكون أعمق غورًا وأبعد أثرًا كلما وسعت رؤيتها ووعيها للرّصيد الذي تحت يدها من دواعي التّغيير وسننه.

 

بهذه القسمات والملامح تكون المبادرة عنوانًا للحاضر كزمن عبور نحو أفق جديد لا كزمن تكراري انكساري، غير أنها لا تؤدي مختلف الوظائف الآنفة و لا تكتسب هذه المنزلة إلا إذا كانت ترجمة لفكرة قوية وعثورًا على المسالك الأنجع لهذه الترجمة، وهذا يعني أنها علم وليست هواية أو ممارسة غفلاً،. والتجديد في هذا الباب ليس شيئا آخر غير العلم بمنطق ترجمة الأفكار الكبرى وقوانينها إلى مبادرات ناجعة وناجحة ومثمرة، ومهما بدت الأفكار الجديدة الصّائبة عسيرة التّحقيق فإنّ النّجاح في تحويلها إلى خطوات عمليّة أولى يفتح لها أبواب التّراكم الأداتي والتّصحيح المعرفي والخبرة العمليّة ويجعلها بعد أجل مقدر واقعًا فعليّا ناميا ومتحركًا.

 

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet