“الرحالة الفرنسيــون في بلاد المغــرب” : استكشاف بلد عتيق

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

صدر كتاب “الرّحالة الفرنسيون في بلاد المغرب: من القرن السادس عشر إلى ثلاثينات القرن العشرين” لأوّل مرّة في باريس عام 1936، فيما ترجمته إلى العربية لم تر النور إلّا مؤخّراً بفضل مجهود الأديب والباحث الأكاديمي المغربي، حسن بحراوي (دار الأمان، 2017).

 

ويعود أصل الكتاب، كما يقول مؤلّفه رولان لوبيل في المقدمة، إلى دروس ميدانية ألقاها على طلبته في معهد الدراسات المغربية العليا بالرباط خلال ثلاثينات القرن الماضي. وهؤلاء الطلبة كانوا في مجملهم من المراقبين المدنيين وضبّاط الاستعلامات وموظفي الدولة الحامية ممّن كان يجري تعيينهم في المغرب، وكان نظر الماريشال ليوتي (المقيم العام الفرنسي آنذاك) قد ذهب إلى ضرورة أن تزوّدهم الإدارة الاستعمارية بالحدّ المعقول من المعرفة باللّغات الرّائجة بالبلاد والقدر الضّروري من تاريخها الاجتماعي والثقافي، بما في ذلك عادات وتقاليد السكّان وأنظمتهم القبلية والمخزنية وغيرها، بشكلٍ يقلّل من اعتمادهم على المترجمين ويسهّل مهامّهم في المناطق النّائية التي سيتمّ تعيينهم بها.

 

ولأنّ أغلب الكتابات الأجنبية حول المغرب كانت تدخل ضمن الأدب الغرائبي الكولونيالي، الذي يحتفي بالغريب والعجيب، فقد قرّر المؤلف استبعاد الكتب الروائية ذات المظهر التخييلي، والتي كرّس لها كتاباً آخر بعنوان “المغرب لدى الروائيين الفرنسيين”، مقتصراً فقط على عرض الرحلات التي قام بها رحّالون فرنسيون إلى المغرب من أواسط القرن السادس عشر إلى ثلاثينات القرن العشرين، لكن بالرغم من ذلك سيواجه مشكلة عويصة تتمثل في صعوبة حصر فئات هؤلاء الرحالة، بحيث انتهى إلى توزيعهم إلى فئات غاية في الاختلاف والتنوّع: أسرى ورهبان ومُخبرين ودبلوماسيين ومستكشفين ومغامرين وفنانين وأطباء ورجال أعمال وصحافيين وضبّاط وعلماء ومجرّد سيّاح مسكونين بالفضول وحب الاستطلاع، وغيرهم. ومن خلال فصول الكتاب، يقدّم المؤلّف عرضاً وتحليلاً للكتابات المختلفة التي تركها هؤلاء الرحالة.

 

النصوص الرحلية الأولى وسرود الأسر

تزامن ظهور المغرب في التّاريخ الأدبي لفرنسا مع ظهوره تقريباً في تاريخها السياسي. فقد وجد الأدب المتّصل بالمغرب، منذ نشـأته، ممثّلاً بصورة حصرية في الكتابات الرحلية. وكان من الطبيعي تماماً أن يكون الأمر كذلك، فقد كان الرّحالة هم الأوائل الذين قدّموا ونشروا في العموم تلك العناصر الإخبارية التي ستتشكّل منها شيئاً فشيئاً صورة هذا البلد. على أنّ التمظهرات الأولى لهذا الفضول نحو المغرب لن تجد تسجيلها بالضّرورة في الكتابات المنشورة في المكتبات، لأنّ ذلك لن يصير متاحاً سوى في وقت لاحق. فهي لم تكن في البداية سوى موضوع رسائل ومذكرات مخطوطة، محفوظة في أرشيفات المكتبات. وبفضل أعمال دوكاستري، الذي راجع كلّ المصادر القديمة لتاريخ المغرب، أمكن للباحثين أن يتتبّعوا خطوة بخطوة تطوّر علاقة فرنسا بالمغرب.

 

من جهة أخرى، إذا غضَضنا الطرف عن بعض الرحلات المنعزلة، فإنّ معظم الأدب المتّصل بالمغرب كان في نشأته مشكّلاً من سُرود الأسر أو بعثات الافتداء. وكانت المؤلّفات، مثل تلك العائدة للأب فرانسوا دانجير وجان أرمان، ترتبط بمسألة الأسرى المسيحيين، وكذلك معظم التقارير ومذكّرات القنصل إتيل. ويمكن القول إنّ كلّ منشورات المكتبة الفرنسية ذات الصلة بالمغرب في ما بين 1640 و1740 كانت تدور حول أَسر المسيحيين. فكلّ هذه الكتب تصوّر على نحو جليّ انشغالات قرن من الصراعات، والنزاعات، والمفاوضات بصدد ظاهرة القرصنة (خصوصاً القرصنة السلاوية)، وظروف اعتقال وطرائق الافتداء، والحصيلة العامة للمعلومات الفرنسية التاريخية والجغرافية حول المغرب وساكنته.

 

“استكشاف المغرب” للفيكونت شارل دوفوكو

من بين الرحلات المهمّة التي يعرضها الكتاب، نقرأ عن رحلة الفيكونت شارل دوفوكو إلى المغرب. وهي رحلة استغرقت قرابة السنة، أي من تاريخ وصول دوفوكو إلى طنجة في 20 يونيو/حزيران 1883، قادماً من الجزائر، إلى 23 مايو/أيار 1884، تاريخ عودته إلى فرنسا، ليبدأ في تحرير وصياغة ملاحظاته، وهو الأمر الذي سيستغرق منه ثلاث سنوات من العمل، حيث لن يظهر مؤلّفه في المكتبات سوى في سنة 1888، تحت عنوان “استكشاف المغرب”، مصحوباً بحوالى مائة من الرسوم، التي تمّ وضعها انطلاقاً من تخطيطات أنجزها المؤلف وحوالى عشرين خريطة في الملاحق.

 

حسب رولان لوبيل، يبقى هذا الكتاب مصدر المعلومات الأكثر أهميّة بالنسبة للمناطق التي جابها، وبالنسبة لمجموع المناطق المغربية، باعتباره الوصف الأكثر شمولية وتحليلاً الذي لم يسبقه إليه أحد من قبل (ربمّا باستثناء ليون الأفريقي في كتابه الشهير “وصف لأفريقيا”، الذي صدرت ترجمته إلى الفرنسية عام 1556). وهو كتاب علمي في المقام الأول من الزاويتين الجغرافية والسياسية. إنّ هذا الكتاب يمثّل، بدون منازع، أهمّ رحلة أنجزت داخل المغرب من طرف أوروبي خلال قرن من الزمن. وعندما ظهر في المكتبات عام 1888، حظي بإقبال منقطع النظير، أوّلاً في مجتمع الجغرافيين والكولونياليين، ثمّ لدى عموم القرّاء. كما جرى استقباله بحفاوة في الخارج، خاصّة لدى الإنكليز الذين أُعجبوا بالنتائج الباهرة التي أسفر عنها هذا الاستكشاف الاستثنائي. وقد قال العالم ماسنيون عنه: “إنّه المؤلف الأساسي الذي تجب العودة إليه في كلّ حين، بما في ذلك الوقت الراهن”. وله مزايا عدّة، أوّلها الدّقة المتناهية، خصوصاً عند استحضار المصاعب والأخطار التي عانى منها المؤلف.

 

رحلة أوجين دو لاكروا إلى المغرب

بالنسبة لرحلات الفنانين، يعرض المؤلف للرّحلة الشهيرة التي قام بها الرسام الفرنسي أوجين دو لاكروا إلى المغرب، وكانت ذات تأثير كبير على مساره الفنّي. ففي سنة 1832، سيوافق دو لاكروا على الانضمام إلى أعضاء السفارة الرسمية م. دو مورناي إلى المغرب في عهد السلطان مولاي عبد الرحمن. وقد كان دو لاكروا حينها في الثالثة والثلاثين من عمره، وقد اشتهر برسمه لوحتيّ “قارب دانتي” و”مذبحة سيو”، إلى جانب لوحات أخرى توطّدت فيها موهبته كرسّام حامل لحساسية جديدة. وسيعود دو لاكروا من رحلته هاته، ليس فقط بعدد هائل من التخطيطات والرسوم التي ستصير في ما بعد موضوعاً لتشكيل كبريات اللوحات وأشهرها، ولكنّه أيضاً سيحمل معه دفترَ سفر سينشر بعد ذلك ضمن مذكّرات الفنّان. وإلى جانب ذلك، كان قد بعث من المغرب إلى أصدقائه بمجموعة من الرسائل، وهذه المراسلات سوف تظهر بدورها في المكتبات. وعبر هذه الكتابات المتنوّعة يمكن تتبّع خطى دو لاكروا في رحلته إلى طنجة ومكناس.

 

يؤكّد كتّاب سيرة دو لاكروا أنّه رجع من سفره إلى المغرب “محمّلاً بكنوز لم تكن حياته كلّها تكفيه لكي يستنفدها”، ذلك لأنّه عاد من هناك بلوحات مغربية خالصة، مثل لوحة “زفاف يهودي في المغرب”، “صدام فرسان مغاربة”، “في زقاق بمكناس”، “مختلجو طنجة” وغيرها، كانت لها قيمة شخصيّة لا يجادل فيها. ولكن، من جهة أخرى، كان دو لاكروا من الأوائل الذين كشفوا عن المظهر العتيق للعالم الشرقيّ، وهذا أكبر شيء استوحاه من المغرب، إذ يقول قبل مغادرته طنجة : “هنا اليونان والرومان على مرمى البصر، وقد ضحكت من أولئك الذين رسمهم دافيد. الآن أنا على معرفة تامّة بهم”. ثمّ، بعد ذلك بسنوات عدّة سيقول أيضاً: “إنّ مشاهد هذا البلد ستظلّ ماثلة بين عينيّ، وأناسه سيظلّون يتحرّكون على الدوام في ذاكرتي. ذلك أنّني عبرهم اكتشفتُ حقّاً العالم القديم”.

 

ذكريات عن المغرب العتيق

في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بموازاة الحملة على المغرب بغرض فرض الحماية عليه، ستظهر رحلات دبّجها محاربون شاركوا في هذه الحملة، مثل إميل كولي صاحب كتاب “رجال الحرب في المغرب، 1912″، أو حرّرها مراسلون حربيون جاؤوا مبعوثين من صحفهم لتغطية أطوار “التهدئة المغربية” وتصوير ملابساتها، كحالة الصحافي شارل إيريات في حرب تطوان (1860). ثمّ، قبل سنوات قليلة من فرض الحماية، ستبرز ظاهرة رحلية جديدة حرّكها هاجس تصوير لحظة انتقال البلاد من حقبة “المغرب العتيق” إلى استقبال عهد الحماية “الجديد”، ويمثل هذا التيّارَ رحّالون كثر لعلّ أشهرهم على الإطلاق أوجين أوبان (المغرب اليوم، 1904)، والسيدة لادريت دو لاشاريير (على امتداد الطرقات المغربية، 1912).

 

وتشيع في هذا اللّون الأخير من الرحلات برمّتها روح استعمارية لا غبار عليها، قوامها تمجيد طافح لما يُعتقد أنّه فضائل الاستعمار الفرنسي، الذي جاء لينتقل بأمّة متخلّفة من مباءة الجهل والغفلة إلى أفق التطور والنهوض تحت الأعين الرّاعية للدولة الحامية والآذان المتيقّظة لمخبريها، وتتأكّد عبر صفحاتها الرغبة المبيّتة في تكريس التاريخ السياسي للاستعمار في المغرب ومضاعفته باصطناع تاريخٍ أدبي له صلة بالروح الغرائبية، التي كانت تهيمن على كتابات هؤلاء الرحّالة وتجعلها ذات حيوية في نبرتها ومحكياتها وغنائية في تعبيرها. ومع هؤلاء، سوف تأخذ الرحلة الأوروبية إلى المغرب أوراق اعتمادها وتصير لوناً أدبياً راسخاً، يضمن لنفسه مكانة مستحقّة تحت شمسِ “حظيرة الأدب الفرنسي الاستعماري”، وذلك بفضل الذّكاء اللطيف و”التفهّم الأبوي” لكتّابها.

 

الأدب السياحي

يعرض الكتاب أيضاً بعضاً من المنشورات التي يمكن تصنيفها في خانة “الأدب السياحي”، أي تلك التي تكون من نوع الدليل السياحي، أو باستعمال لفظة أرقى “دعوات السفر المغربي”، وهذا النوع من المؤلفات يعود في مجمله إلى الفترة الحديثة، ذلك أنه من المرجح أنّ الإمبراطورية الشريفية في المغرب لم تستقبل كثيراً من السياح قبل حلول القرن العشرين، ومع ذلك، فلدينا ابتداء من 1888 الكتاب الذي نشره كيديك، تحت عنوان “دليل المسافر إلى المغرب”، والذي يبدو أنه كان تدشيناً لهذا النوع من الكتابات. وقد كان المؤلف رئيساً لتحرير جريدة فرنسية تصدر في طنجة تحت اسم “يقظة المغرب”، ويظهر أنّه كان يسعى إلى استقطاب مواطنيه إلى هذا المرفأ الشتوي الذي كان معروفاً لدى السياح الأنغلوسكسونيين.

 

غير أنّ المصاعب العملية كانت تقف دون الرّاغبين في السفر إلى المغرب وتحقيق مرادهم. وكان يجب انتظار إقامة الحماية لكي نشهد انطلاقة هذا التيّار الرحلي باتجاه البلد، وعليه فلن تظهر الدلائل السياحية حول المغرب سوى بعد استقرار فرنسا فيه. ومن خلال عرض بانورامي لأهمّ ملامح هذا الأدب السياحي، التي تسمح بعض الاستثناءات بالتمييز بين الممارسة الغرائبية الساذجة والبحث الرصين والمتفهّم، أو في أقلّ الأحوال تلك النظرة الذكية للوقائع، يخلص الكاتب إلى أنّ بعض الكتب القليلة تشكّل امتداداً لتقليد الرحالة الكبار، فيما العطاء الإجمالي للأدب السياحي يظلّ دون المستوى المطلوب، بسبب ضعف المضمون وإهمال التعبير الأسلوبي.

 

“كلمات من الميدان” للماريشال ليوتي

يخصّص المؤلّف الفصل الأخير للحديث عن كتاب يحتلّ مكانة بارزة، في رأيه، ضمن جميع الكتب المختلفة التي قام بالإشارة إليها وتحليلها ونقدها في الفصول الخمسة والعشرين السابقة. يتعلّق الأمر بكتاب “كلمات من الميدان” للماريشال ليوتي، الذي نشر سنة 1927. وهو يجمع خطبه وكلماته التي ألقاها بين 1900 و1926، سواء في مدغشقر أو في منطقة وهران أو في المغرب. وينطلق الكتاب من بداية المسار الكولونيالي لليوتي، ليتواصل ويتوسّع كلّما زادت حاجته إلى الحديث في الجموع، خصوصاً في المغرب الذي عُيّن فيه مقيماً عاماً سنة 1912.

وبما أنّ الأمر يتعلّق بخطابات، لاحظ الكاتب أنّ ليوتي على امتداد مساره المهني لم يستعمل سوى عددٍ محدود من الأفكار الموجّهة، المعبّرة عن تطوّر خطابه المذهبي الكولونيالي، وهي تجد مكانها موزّعة في أكثر من موضع ضمن الخطب التي يشملها الكتاب. ويمكن تصنيفها في مجموعتين: أوّلاً، تلك المتعلقة بالإنسان الأوروبي، الفرنسي، الكولونيالي، ثمّ تلك التي لها صلة بالسكان الأصليين وبالبلد المستعمَر. ويعجّ الكتاب بالإشارات التي تخصّ المغرب في مجالات عدّة، ما يجعل حصّة هذا الأخير هي الراجحة، لأنّه من مجموع 460 صفحة من الخطب والكلمات، هناك 350 صفحة مخصّصة للمغرب، أي ثلاثة أرباع حجم الكتاب.

 

ختاماً، يمكن الاستنتاج مع المؤلف رولان لوبيل “أنّ إفادات الرحالة الفرنسيين، وهي تتتابع في هذا الكتاب، ترتسم هي نفسها كلوحةٍ عن المغرب، لوحة تتكامل وتتعمّق تدريجياً بفضل ما يضيفه قلم كل واحد منهم”. وهي فعلاً كذلك، لوحة تعكس تلقائياً، من غير الحاجة إلى التناسق بين مكوّناتها، صورة المغرب العتيق كما تجلّت في عيون ذلك الغريب، الآخر الأوروبي، الفرنسي تحديداً، وهو يسرد مشاهداته وانطباعاته وذكرياته عن البلد وطبيعته وعاداته وأهله وجماله وغرائبه، خلال فترات كثيرة من تاريخه الحديث. وحين يتعلّق الأمر بالذاكرة، لا يهمّ قارئ هذه الرحلات، أو أيّ باحث في التاريخ، أن يكون ساردها مستكشفاً أو سائحاً، محارباً أو أسيراً، تاجراً أو راهباً، طبيباً أو ديبلوماسياً، فناناً أو مغامراً…إلخ، وإنما المهم قيمتها التاريخية، التوثيقية والمعرفية بشكل عام.

 

المصـــدر: صحيفة “العربي الــجديد”، بتاريخ 5 سبتمبر 2017م.

 

 

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet