المـلاك الجـــــريح

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلم: هذباء الغويلي 

 

جَاءت من بعيد تُحلّق في السَّماء، تضرب بجناحيها تَبحثُ عن الانتماء والاحتِماء، تنشد غصنًا ترتاح عليه أو نبعَ وفاء يروي ما بها مِن ظمأ. سنين مَضت وهي  وَحيدة بأرضٍ جدباء عجَفاء، لاَ خِصبَ ولا مَاء. أرادت أن تَحطّ لِترمي أثقالَها  وَتنعَتِق من  أَغلالها، فقد أضناها الجفَاء وأرّقها الإنطواء. بحثَت في أعماقِها فلم تجد غير الخواء، لاَ ذكرى ولا قلب هَوى، فصارت تسيرُ على غير هُدى، علّ القَدر يجود بحبّ فيُنسيها حرّ الجوى .

 

استقرَّ بها المقامُ على غصن شجر، فرأته من بعيد ملاكًا طاهرًا رُوحًا وفكرًا يأسر النّظر. اِقتربت منه ولَيته مَا كان اللّقاء؛ تلاقت النّظراتُ، وبلمح البّصـر تشكّل انفعالٌ عاصفٌ يسمّى عشقَ النّظر. بسرعة ليس لها مَقاييس في تشكيل الأحَاسيس، أحسّت بوخزٍ في قلبها كالإِبر، زادَها وجعًا على وجعِ السّفر. قالت: رُحماك ربـّي فتنة النّظر، فما هذا إلا عشق بني البشـر، فرأت القلب منها يخفق وترًا وتر، والرّوح تدعو غفرانك عما قد بَدر.

 

تاهَت لياليَ بين البدر والسَّحر، ترُوم انعتاقًا من ذاك الأثر… فما استجابَ لها القَلب ومَا أسعفها القَدر. فعادت حنينًا لذاك المستقرّ، ترقبُه من بعيد بكلّ حذر، وتطيل إليه ما شاء النّظر. فكان ملاكًا يسقيها حبّا  كُلّما أمعن فيها النَّظر. وكانت تهتزّ بين لذّة اللقاء وخوف الجفَاء، فهي تروم الخلود ما دام اللّقاء.

 

رجت الله أن تحلّ في قلبه وفي السُّويداء، وتقبر بين جَفنيه ما طال بها البَقاء. مرّت الأيّام وهي في أنين ترقبُه بحنينٍ، لكن ما عاد الصّمت يكفي قلب الغراء، وماعاد النّظر يشفي ما بها من داء، فقد باتت تُريد ملكًا، تُريد الاحتواء، تريد أمانًا، تريد استقرارًا بين الوَرى. تُريد وعودًا تريد مدحًا، تُريد مزيدًا من الاعتناء، فصمتُه عَذّبها، وما زادها إلا عناء، وما عادت النّظرات تكفيها أو تشعِرها بالانتماء.

 

كَتبت له بدمع عينيها عن عالم الفَضيلة والحبّ الخالد، عن الزّهر عن السّحر عن الطّهر، عن عبق الوُرود أيّام المطر، عن النّاي والوتر، عن شدو الطّير وحفيف أوراق الشّجر، عن همس الموج والمناجاة في السّحر.

قال لها: عالمَكِ جميلٌ و أنا فيه أسير.

فقالت: رُحماك ربّي ما هذا بمصير، فأنت نور أرسله لي ربّي لينيرَ لي دربي، فعالمي رهنُ إشارتك يسير، فَدم فيه حتّى يتركني آخر زفير.

قال: أَعدك يَا ملكة الوَرد والعالم الأثير.

 

ومضت الأيّام تعقبُها أيّام وهي في نشوة من فرط حبّ كبير. وذات يوم أرادت اللّقاء، بَحَثت في عَينيه فلم تجد إلا الجَفاء. اقتربت منه فزادها إقصاء. جثت على رُكبتَيها وقالت: رحماك ربّي، ما لي قدرة على تحمّل هذا العناء، فأمِتني موتة الشّهداء حبّا وَوَفاء.

قالت له: شكرًا يا ملاك الطّهر، علّمتني كيف تموت القُلوب شهيدة وهي في الأَجسَاد أسيرة.

قال: القُلوب لا تموت حتّى تتوقّف عن النّبض.

قالت: كثيرة هي القُلوب التي تنبض، ولكن كم من قلب حيّ.

أعجبه الحوار، فازداد شوقًا إليها، وعاد يرتشف الحنان من مُقلتيها. وعادت هي إلى النّوم بين جفنيه. وذات يوم، أخبرها عن الرّحيل، فأحسّت أنّها فقدت آخر زفير.

فقالت: لقد وَعَدتني بالمكُوث والبقاء في جنّة الخلد الغنّاء.

قال: فراق الجسد ليس بالعَناء ، فَرُوحي تطوقك من كلّ الأنحاء.

 

فكان منه الرّحيل، وكان منها النّحيب. هجرها النّوم وزادها شقاء، وازداد شوقها ليوم اللّقاء.

كتبت له في عيد مولِدِه أجمل قصائد الشّوق والحنين، فلم تظفر منه بنبإ أو خبر يَقين.

 

فسكنت للتّيه والضّياع، وأسلمت قلبها لنهش الظّنون كما تنهش الفريسة من قبل السّباع، فقد أَذاقها من قبل طعم الالتياع. مرّت الأيّام وهي تنتظر اللّقاء كانتظار الرّضيع لحضن أمّه بعد هجر وجفاء. حان يوم الموعود، فأخذت هديّة الميلاد إكليلاً من الوَرد وعطر جنّة الخُلد وقلمًا ليخطّ لها أجمل عبارات الودّ والحبّ. كان اللّقاء، وليته ما كان، استقبلته بابتسامة كلّ المحبّين المُشتاقين واستقبلها بسُؤال: آسف سيّدتي من تكونين؟!

 

حِينها أحسّت أنّ الصّرح الذي شيّدته ورصّعته بأسمى وأرقى عبارات الحبّ هوى في مستنقع المنافقين ، والمحراب الذي تعبّدت فيه صار لعنةً إلى يوم الدّين. عجزت حتّى عن الكلام، فذرفت الدّمع  ولملمت جِراحها ورَحلت في سَلام. في طريقها صادفها شيخٌ خَبير بالسّنين فقال لها: بنيّتي، ما كلّ هذا الشّقاء السّاكن في الأحداق؟  وما كلّ هذا العناء النّاطق بلا شفاه؟

فقالت: لاَ تسل أَبتاه، فكلّ شيءٍ قد تَاه، وصار بين الأنّة والآه.

قال: بُنيّتي من أين تأتين ؟ فكلّك حزن وأنين.

فقالت: أبتاه، لا تُكثر من السّؤال، فليس لي قدرة على اِحتمال سَرد قصّة سارق الآمال، وقد أتيتُ من هناك، من بعيد.

و أشارت بيدها إلى ما وراء التّلال.

قال الشّيخ جزعًا: رُحماك ربّي، ومن أذن لك بالدّخول إلى مدينة المستَذئِبين؟

نظرت إليه في اِستغرابٍ تريد المزيد.

 

فقال: بنيّتي تلك المدينة أُناسُها أناس، لكن  لهم قسوة لا تُقاس، يلبسون ثوب الطّهر والعَفاف ولكن القُلوب عندهم تُداس، لا فضيلة عندهم ولا إِحساس، شرعُهم المُرابحة حتّى في الإحساس، وشرعك المسامحة حتّى مع أرذل النّاس نَقيضان لا تلتقيان:  جوهر ومادّة، جسدٌ وروحٌ، براءة وفِسقٌ، وفاءٌ وغدرٌ، طيبة ومكرٌ، لقاءٌ وهجرٌ. بنيّتي اِرحلي عن ديار المستذئِبين فَفِراقهم غنيمة وصحبتهم أليمة، فكم من قلوب افترسوا، وكم من بيوت خرّبوا، وكم من فتن أوقَدوا، وكم من نِيران أضرموا، وكم من أعراض هَتكُوا، وكم من حُرمات دنّسوا، اِرحلي إلى عالمَك الجميل، فالفَراشة  لا يَعشقها  إلاّ نظيرها والحيّة لا يَطلبها إلاّ مثيلها.

 

ازدادت آلامُها واشتدّت أوجاعها، وأيقنت أنّها غوت فهوت بين قلوبٍ ظالمةٍ وأرواح ضالّة بين شهوة الجسد وسلطة العدد. تمنّت الرّحيل، لكنّ جسمها عليل وقلبها خلف التلّة أسير، فخشيت إن رَحلت حنّت وعادت إلى ما تمنّت، فقرّرت البقاء حتّى يكتب لها الشّفاء.

 

مرّت الأيّام وهى تتضوّر من فرط حنين تتلوّى ، فلا النّسيان يُسعفها و لا الوِصال يُسعدها. فكّرت في الانتقام والقُعود لهم لكن طَبعها ليس طبع اللّئام. فعادَت خلف التّلة ونادت هلّموا إلى الفلاح، هُبّوا إلى الصّلاح، فالحياة فانية والدّنيا غانية يشدّك سحرها ويُغويك نحرها لكن لا شيء فيها يدوم غير النّدم والهمُوم.

 

اِستغرَب المستذئِبون جُرأتها فلاَ أحدَ أقدم على فِعلتها، فكشّروا عن أنيابهم وجمعُوا أَحزابهم وحدّدوا أَهدافهم وخطّطوا ورَتّبوا لتشويه سمعتها وكسـر عزّتها. قالوا مسكينة مجنونة، ذهب العِشق بعقَلِها وتلاعبَت الأوهامُ بِفكرِها. حَاولوا زَعزعة إيمانِها وَصدّها عن مَرامها لكن فشلت حِيلهم ودحضت خُططهم، فعاد الزّعيم يُعلن التّوبة ويتقمّص ثوب الشّهيد، فحدّثها عن ظلم الزّمان وقسوة الأيّام التي حوّلت نقاءه رياءً ووفاءه جفاءً، فجفّ نبع الحبّ لديه واستشهد قلبه بين يديه.

 

حنّت إليه ومالت عليه تضمّد جراحه وتطبّب قراحه، ومرّت الأيّام، كَبرت فيها الأحلام، رسمت عالمًا ملائكيّا تسبح فيه الطّيور وتسجد فيه الزّهور حمدًا لربّ الوُجود، لكن في لمحة بصر انهار كِيانهَا ودمّر بُنيانها، وشُوّهت أحلامُها  فقد عاد إلى سيرته الأولى؛ خيانة وخليلة شهوة ورذيلة، إثمٌ و جريمةٌ . لم تصدّق النّظر، فراحت تقفو الأثر فأصبح كلّ شيء يَقينا. خارت قواها والحزن غشّاها والتّيه كسَاها والوجع غطّاها، وغدت سفينة تائهةً تبحث عن مرساها. قبل رحيلها همست للرّيح وتمتمت ثم طارت بعيدًا تريد خلاصًا، تريد ملاذًا تُواري فيه خيبتها.

 

بعد زمن التقت بشيخ السّنين، فأخبرها أنّ ريحًا عاتيةً هبت على المستذئبين فشتّتت شملهُم وبدّدت أمنهم، ولم يَعد يُسمع لهم في الجوار ركزٌ.

.

 

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet