ملامح البطولة في رواية “الثّقب الأسود ” للكاتب عبداللّطيف العلوي

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلم:  الأستاذ عبد المجيد بني عمر

 

لا تزال السّاحة الثقافية تزخر بصدور مؤلفات جديدة في أدب السجون أو أدب الحرية كما يحلو للبعض أن يسميه، ولقد صدرت رواية جديدة للشّاعر عبد اللطيف العلوي عنوانها “الثقب الأسود” و احتوت الرواية على إهداء و تصدير و مكاشفة و اثني عشر فصلا.لقد آلى الكاتب على نفسه ـ من خلال الإهداء ـ أن يحيي المأساة قبل أن تنطفي شعلتها التي تكاد تخبو في ذاكرته محاولة منه للطيران والتّخفيف من أعباء الفاجعة السّوداء.إنها رواية تُبعث للشهادة على إجرام دولة النّظام الفاسد في ” بلد لا يغفر الأحلام “و مخافة أن يبتلع الثّقب الأسود تلك الفاجعة التي حلّت بأبطال الرواية كي “لا يهزمهم النّسيان”.

 

     رواية “الثقب ابأسود”

إن عبد اللطيف العلوي لا يألو جهدًا في إعادة المأساة ـ بالعرض البطيء ـ و هو يوهمنا في البدء بأنه سيكون بطلا لأحداث الرواية ، على غرار ما ٱطلعنا عليه عادة في أدب السجون، و لكنه ينأى بنفسه شكلاً عن البطولة و يخوض غمارها بأبطال آخرين شهدوا أحداث الرّواية الحقيقية ” بعد أن جمعتهم المحرقة في نفس المكان و الزمان. “

ان “الثّقب الاسود” رواية تشهد بأن كلّ شيء ـ رغم التنكيل الذي أصاب الذّاكرة ـ ” مازال على ما يرام “و إلاّ فجعنا في ذاكرة لا تزال تنوء بأعباء الوجود الذي دنسته أيادي القذارة و الفساد والإجرام السياسي و الأمني في زمن يعدّ من أحلك فترات تاريخنا المعاصر. .

 

إن العلوي مثله كمثل الكاتب الواعي الذي يظل في سباق بل في صراع مع الزمن فهو يدرك تمام الإدراك أن الزمان سلاحه النّسيان “الثقب الأسود” الذي يبتلع كل شيء ، أما سلاحه فهو المقاومة بالتذكر والكتابة، ومن هنا حدد “في مكاشفته” طبيعة الأعمال التي سيتمرس بها ليواجه بها الوقت و يتحدى حركة الزّمن التي لا تلين وحبائله ومكره الموجع، لذلك كان لا بد أن ” يصارع الوقت ويسابقه كي يكتب أشياء كثيرة “، و على هذا الأساس تنشأ الرواية من إرادة الكاتب لمغالبة النسيان الذي يظل يحجب تجارب الإنسان وينخر إبداعه ويهوي به في هوة “الثقب الأسود” السّحيقة.

 

هذه الرواية واقعيّة بحجم المعاناة و الدمار الذي ألم بجيل عاصر عهدين لنظام لم يتغيّر إلا رأسه، فازداد شراسة وإمعانًا في إذلال عباد الدّولة و هي لا تخلو كذلك من رومنسية بحبها العذري الذي مثله بطلا الرّواية طفلين وشابين قطعا مسافة في المكان والزّمان ليلتقيا بعد فراق دام أكثر من عشر سنين، ويفترقا بعد لقاء دام لحظات “كان ذلك كلَّ شيء قطعنا عمرًا كاملاً فقط كي نصل إلى تلك اللحظة و نقولها للمرة الأولى بمنتهى اليقين ..أحبّك.. ” ص 237 . و هكذا تنبني الرواية بفصولها الاثني عشر على تقاسم البطلين (خالد و فدوى) الفصول فصلاً فصلاً في خطين متوازيين لا يتقاطعان فيها إلاّ عن طريق الذكرى، أو في مكان اللّقاء والفراق على حدّ سواء.

 

ملامح البطولة في رواية “الثّقب الأسود”

لا شك أن الشّخصيات الرئيسية هي التي تمثل البطولة في أبعادها الفنّية والدّلالية، فقد يُصنع البطل كاملاً و لكن سرعان ما يظهر زيفه فيهوي ويكون عبئًا على الرّواية، وقد ُيصنع على علاته، كما فعل العلوي، فيساهم في تماسك شكل الرواية و مضمونها. والحقيقة أن الكاتب وازن بين الشخصيتين الرئيسيتين (خالد الشرفي و فدوى)، فكل منهما تعلق بشخصية دونها بطولة، فخالد الشّرفي كان ارتباطه وثيقًا بعامر الصّالحي، بينما فدوى كان اتصالها بشخصية ‘لزهر الماص’ قائما على القطيعة والصراع، كما صاغ الكاتب لكلا الشّخصيتين أسرة تتكون من أب و أم، وخصّ خالد الشّرفي بأخت لها دلالتها العاطفية، بينما وصل فدوى بعمة كفلتها بعد يتم. .

 

ولئن ميز العلوي بينهما في علاقتهما بالأسرة وباعد بينهما في المكان أحيانًا فإنّه قد جمع بينهما في الوجيعة و المعاناة. إنّ شخصيّات العلوي، بطولتها أنها واقعية المنشإ، تقاوم من أجل العيش و الكرامة، بل إن كل الأحداث المتعلقة بها، كما قال الكاتب، أحداث حقيقيّة، و لعل البعد الحقيقي لهذه البطولة هو ذلك المعنى الذي يردّده عبد اللطيف العلوي في بعض عناوين قصائده مثل: خيبات طفل عظيم، وكبار حجم الوجيعة، إنها بطولة تأبى أن تتهاوى رغم عبء المعاناة وجسامتها من ناحية وانكسارات الإنسان و ضآلة حجمه من ناحية أخرى:

ولكنّنا مثلهم في الوجيعة أيضًا

كبار بحجم الوجيعة

بحجم انكساراتنا كل حين وخيباتنا القاتلة.

 

لقد بنى الكاتب شخصيّاته على أساس التّحول من طور إلى آخر فهي شخصيات مسالمة،  مستسلمة تعيش حياتها ببساطة و خضوع رغم ما تحمله في أعماقها من معاناة يومية. يقول خالد الشّرفي معرفا بنفسه ” أنا مجرد سائق سيارة نقل ريفي ، أعيش على هامش الأحداث، لم أنجح في امتحان البكالوريا فهاجرت إلى ليبيا…اشتغلت خمس سنوات، و عدت بسيارة 404 باشي.. اتخذتها للنّقل الريفي، أحترم القانون و أدفع الأداءات .. “ص 87.

 

و يستمر الكاتب في تشييد صرح شخصيّة خالد الشّرفي و ينبش ذاكرته، و يعود به إلى طفولته وصباه من حين إلى آخر ليجعل منه شخصيّة متكاملة الملامح، ولئن كانت علاقته بأبيه تتسم بالتّوتر و الانفصال ( شعرت منذ تلك الحادثة أن ذلك الرجل الذي يقاسمنا البيت صار عدوي) فإنّ صلته بأمّه كانت مفعمة بالودّ و الاتصال “، أحيانًا كانت تمسك الفلاية العاجية وتنكُس رأسي إلى الأمام وتروح تكشطه بصبر وأناة ، فتأخذني نشوة لذيذة، وأتمنى لو يبقى رأسي على ركبتيها حتّىى ينقضي العمر” ص 97.

 

و تظل صورة الشرطي بين الوهم والحقيقة صادمة للطفل الذي لم يستوعب عقلُه الصغير الفرق بين الخيال والواقع، فكان يرى صورة الشرطي في كتاب القراءة مثالا للأناقة و الوسامة والبشاشة والمهابة بقبعته، وإذا به يفاجأ بأن “العون الجالس في الاستقبال لم يكن أنيقًا جدّا ولا رشيقًا جدا كما يبدو لي في الرسم ” ص 47، و شيئًا فشيئا تنتقل شخصيّة خالد الشرفي من طور اللاوعي إلى الوعي بالمكان و الإنسان و الدّولة و أجهزتها.

 

و تنشأ لدى خالد الشرفي ــ بعد وعيه، حالة من الدفاع عن نفسه و إبعاد التهمه عنه فهو كما قال ” لست مناضلاً و لا بطلاً ولا قديسًا، كل ما حدث معي كان وليد الصدفة والحظ العاثر وحدهما ” ص 85. و بين الإثبات و النفي يعيش خالد الشرفي مضطربًا بين الوعي و الاستسلام للاوعي، بين الحيرة و الاستكانة ” لست إسلاميّا كما يرون أنفسهم ولا خوانجيّا كما يراهم العالم، أنا رجل ضئيل و هامشيّ و بلا يقين، أعيش حياتي بلا أسئلة و لا تفاصيل و لا شهود، أعدِّل دماغي كل يوم على إيقاع الحياة اليومية، وأكره المفاجآت في كل شيء ” ص 51.

 

و يكاد يقرُّ بأن ما حصل له ليس إلا ضربا من ضروب الخيال و الهواجس لا علاقة له بواقعه المعتاد “في غرفة الإيقاف مرّت بي أوقات كثيرة كنت أشعر خلالها بمنتهى اليقين أن ما يحدث معي ليس واقعًا حقيقيا ملموسا ” ص 53، إن وعي خالد الشرفي لم يكن مسألة وقت يطول أو يقصر بقدر ما كان وعيًا وليدًا لتجربة عميقة بالدّولة وأجهزتها وأساليبها المدمّرة لحياة الإنسان وقيمه وكرامته، حينئذ اكتشف بأنّه ضحية من ضحاياها” لماذا تتخذني الدّولة عدوّا لها ؟ و بماذا تتهمني ؟ ” ص 87، وأقر أخيرا بعبثية ما تعلمه في مدارس هذه الدولة التي علمته قيما سرعان ما تنكرت لها “أنا الذي دهسته عجلات النّظام وجعلت مني بطلاً في عيون البعض، وشيطانًا في عيون آخرين وأنا شبه مواطن غلبان لم يفعل سوى ما تعلمه يومًا في مدارس هذه الدولة الفاجرة : أن يؤدي الأمانة إلى أهلها”.

 

و من المفارقة العجيبة أن يصبح أداء الأمانة تهمة يعاقب عليها قانون الدّولة بالسجن، بل إن خالد الشرفي قد انكشفت له طبيعة الدّولة العدوة لمواطنيها المسالمين إذ يدلي بشهادته على أفعالها المشينة وقهرها للعباد بعد أن تأكّد من إجرامها وقمعها “صرت أعرف أن الدولة حين تقتل مواطنيها لا تترك أدلة و أنّها قاتل متسلسل غامض”. و هكذا ٱنفصل خالد الشرفي عن الدولة التي كان لا يعرف عنها الشّيء الكثير”والعلاقة الوحيدة التي كانت تربطني بها هي بطاقة التّعريف القومية و الأداءات و نشرة أخبار الثامنة”.

 

و لا شكّ أن هذا الرباط الهش بين الدولة والبطل هو الذي أدى إلى الوعي والثّورة على كيانها ثم، انجذب بعد ذلك إلى صف الضحية و بدأ يناصر عامر الصالحي و رفقاءه، ومن هنا تحول خالد الشرفي إلى مناضل سياسي رغم أنفه. إنها الدولة القامعة التي تصنع عملاءها كما تصنع معارضيها وتحول المسالمين إلى مجرمين “هل سيفهم الناس سر كآبتي وحركاتي الثقيلة الباردة؟ هل سيعرفون أنني أحمل في أعماق روحي حجرا بحجم البلاد التي غربتني وجعلتني مجرمًا؟ ” ص 98 .

 

و لما كان الوعي علامة على التغير والتحول إلى إدراك الواقع بلا أقنعة أدرك خالد الشرفي القدرة على التمييز بين الخيال والواقع كما أدرك “أن الوطن ليس قبعة شرطي” لأنه شعر بأن آثار التنكيل والقهر صنعت منه مخلوقا جديدا “لكن ذلك الطفل الذي عاش في داخلي ثلاثين عاما، مات من التعذيب و من القهر والخوف و الهوان، وشعرت في لحظة موته بولادة وحش مشوَّه في داخلي ما انفك يتخبط و يعوي و ينهش أحشائي دون توقف”،  و هكذا نشأت في أعماق خالد الشرفي و وعيه فكرة الانتماء إلى  الوجيعة والمعاناة،  وانبهر بهؤلاء المناضلين وحماسهم و يقينهم “كانوا يتحدثون عن النضال فأشعر أنها كلمة غريبة عني وأنا غريب عنها، أحاول أن أتحسس حرارة اليقين الذي يملأ صدورهم و أتساءل من أين يأتيهم ذلك الإحساس بالامتلاء والرضى؟ ذلك الإيمان العميق بأنهم أصحاب رسالة وبأنهم موعودون بالنصر مهما أكل الطغاة من لحمهم وشربوا من دمهم”، ويبدو أن بطولة خالد الشّرفي لا تكتمل ولا يكون لها جدوى دون أن يكون لشخصية عامر الصّالحي حضور في مسيرته النّضالية، لذلك قرب الكاتب بين الشّخصيتين بل جعل قيمة خالد الشّرفي الفنية الدلالية في الرواية لا تتحدد إلاّ من خلال التّكامل و التقاطع بينهما.

 

وعلى هذا الأساس احتلت شخصية عامر الصالحي المكانة المرموقة في عالم خالد الشرفي، داخل السجن و خارجه، فالسجن كان الوسيط للتعرف إلى شخصية أستاذ الرياضيات عامر الصالحي الذي بدا لخالد الشرفي منذ أول وهلة “رجلاً استثنائيا بهيبة فطرته” شخصًا مميزا يثير الانتباه بحضوره القوي الهادي “و يضيف شهادة أخرى تكشف عن مدى انبهاره و تقديره لشخصية عامر الصالحي “في الإيقاف عرفت عامر الصالحي عن قرب واكتشفت كم هو بسيط و حميم، تشعر أن روحه غيمة صيف خضراء تظلل الجميع و تسقيهم كلما ظمئوا ، رجل يعطي بلا حساب و لا يدرك أبدا قيمة ما يعطي”.

 

إلا أن البطولة أحيانا تتخذ شكلا آخر من المواقف والقيم، فليس المهم أن تنبهر بقضية ما و لكن الأهم أن تؤمن بها و تصبح هي جزءا من كيانك تنصرها و تدعو إليها، لذلك عندما ارتكبت أجهزة الدولة بجلاديها وإدارتها جريمة قتل عامر الصالحي صار خالد الشرفي “الذي تربى على أيدي الفراشات والحساسين والجنادب في أرض تأكل أبناءها ” مولودًا جديدًا في صفوف المناضلين يحمل فكرة عامر الصالحي التي أصبحت هما يلازمه، لأن هول الفاجعة كان مدويا ومحييا للنفوس وباعثا على التخلص من ظلم الدّولة وظلمتها “يوم سقط عامر سقطنا جميعا، اغتصبونا جميعا أحمل عنه ذلك القهر و الألم والشعور بلوثة الحياة في بلد يغتصب الرجال…عامر يسكنني، لا أستطيع أن أتخلص منه و لا أريد..ما معنى أن يكون لك حياة في بلد يقتل عامر الصالحي ؟”.

 

وبناء على ذلك تمثل شخصية خالد الشرفي القطب الذي تدور حوله الشّخصيات الرئيسية الأخرى وتتجمع حولها دلالات البطولة مما جعلها شخصية أقرب إلى الواقع تنامت بعد أن تخلصت من عقد الطفولة واضطرابات الصبا، و تغيرت من غيابها وسلبياتها إلى حضورها وفعلها في الوجود والحياة برغم التنكيل والقهر. ولقد استطاع الكاتب أن يبني من خالد الشرفي شخصية متنامية تحررت من قوقعة الحياة اليومية والجمود، برغم الخيبات و النكبات، و أحيى فيه الوعي بوجوده و علاقته بالآخر و محيطه.

 

و يبدو أن شخصيّة فدوى لا تبتعد كثيرا في مسارها الفني و الدلالي داخل الرواية عن بطولة خالد الشرفي، معلمة تركت حب الصبا مرغمة واختارت لها حياة عائلية بعد زواجها ب ‘لزهر الماص’ يتيمة الأب والأم كفلتها عمتها وهي لا تزال في بداية مراهقتها، إلا أن بطولتها تتحدد من خلال دفاعها عن كرامتها ووضعها كامرأة في بلاد الصمت “قبل الطلاق كانت امرأة متزوجة تعيسة، وبعد الطلاق وجدت نفسها تخوض حربا وسخة كي لا تصبح عاهرة مطلقة تعيسة لنفس الرجل الذي عافها زوجة وأرادها عاهرة”.

 

وبدأت شخصيتها تتنامى و تنأى عن حياتها البسيطة لمَّا علمت بما حل بخالد من اعتقال ووتنكيل ” قبل اعتقال خالد لم تكن تفهم شيئا من أحاديث السياسة ولا تطيق الخوض فيها..كانت تحب قراءة الروايات العاطفية..اليوم وجدت نفسها تنجرف مثل جذع مكسور في عالم أدب السجون”.

 

وازداد وعيها تعاظما عندما أدركت بدورها “أن تصبح مجرد كلمات حزينة يائسة بين حبيبين، محط اهتمام الدولة، فهذا أمر لم يكن يخطر ببالها حتى في أشد حالاتها نقمة على النظام”. وكلما أمعنت أجهزة الدولة تنكيلًا بالبطل ومحاصرته ازداد اصرارًا على المقاومة، وكذلك الشأن بالنسبة إلى فدوى حين رفضت أن تكون واشية بزملائها أغرت بها أجهزة الدولة طليقها “الذي كانوا يغضون الطرف عن أي جرم يرتكبه مقابل أن يأتيهم بأخبار قاع المجتمع الشعبي العميق”.

 

وهكذا انتقلت في نظر الدولة عدوة مثلها كمثل خالد الشرفي، فالدولة لا تحمي مواطنيها الصالحين بقدر حمايتها للمنحرفين المفسدين “أدركت أنه ليس من الصدفة أن تحمي هذه الدولة ‘ لزهر الماص’ و تحارب خالد الشرفي” ص 215. ومما تجدر الإشارة إليه أن فدوى استطاعت أن تعي بحقيقة جهاز الشّرطة الذي ساهم بواسطة طليقها في أن يكدر صفو حياتها ويجعلها جحيما ” للمطاردة من البوليس، وجحيم الحصار الذي ضربه عليها لزهر الماص أينما ذهبت”.

 

وعلى هذا الأساس أيقنت أن” معركتها مع( لزهر الماص) هي نفسها معركتها مع مركز الشرطة..إذا اغتصبها أحدهما فسوف يغتصبها الآخر، وإذا انتصرت في معركة فسوف تنتصر في الأخرى” ص 151. إن قيمة البطولة في شخصية فدوى أنها لم تستسلم لبطش أجهزة الدولة وحيوانية طليقها لزهر الماص، لقد كانت تكابد من أجل التحرر من قيود القهر و سلطة الرجل العنيف المنحرف، لا شيء قد يعطل قدرتها على التحدي وصد عدوان الدولة و جهالة طليقها لأنها اختارت منذ الطفولة، رغم نكبات الدّهر، الرّجل الذي تطمئن إليه نفسُها ” لم يكن خالد بطلا وما كان يحب أدوار البطولة..كان شريفًا عالي الهمة منذ سنواته الأولى، ولذلك اطمأنت إليه وشعرت إلى جانبه بالأمان” ص 151، لذلك كان دفاعها عن شرفها و كبريائها لما أقدم على اغتصابها لزهر الماص عملاً بطوليّا وإن أودى بحياة طليقها. وكما كان خالد الشرفي و عامر الصالحي كبيرين بحجم الوجيعة كانت فدوى كذلك كبيرة بحجم مكابدتها الموجعة.

 

إلا أن الكاتب يحسم أمره في موقفه من البطولتين إذا بدا مفاضلا لبطولة خالد الشرفي على بطولة فدوى، فقد أطلق خالد الشرفي العنان ليروي بنفسه معتمدا ضمير” الأنا”‘ لتكون الرواية أوجع وأعمق وألصق بالذات، بينما قيد الكاتب بطولة فدوى بروايته مستخدما ضمير الغائب المؤنث “هي”، ولكن الطريف في ذلك كله أنه رغم ظهور فدوى منقادة يُتحكم في مصيرها أحيانا، فقد كان جهدها للتّحرر أكبر وظلت إلى النهاية تكابد وتعلن انتصارها و فلاحها في مسيرتها النضالية “ابتسمت إلي من خلف الزجاج ولوحت بيدها اليمنى ثم رفعت شارة النّصر وراحت تبتسم إلي بوجه هادئ لم أر أجمل منه في حياتي ” ص238.

الرواية في ميزان النقد

لا شك أن الكثير من الأجناس الأدبيّة التي صدرت بعد الثّورة في علاقة بأدب السّجون قد أربكتها جسامة المعاناة فلم يجد كتابها من الأساليب الملائمة ما يرممون به جراحاتهم بل تورطوا “بأناهم” المشبعة بالقهر والتنكيل في الحكي والقص مما أنشأ انفصامًا بين الشكل والمضمون. ويبدو أن عبد اللطيف العلوي قد استوعب المأزق الفني الذي وقع فيه الكثير من المؤلفين الذين بذلوا جهدا كبيرًا في تفريغ الأنا من عذاباتها فأعوزهم البناء الفني وظلت الأنا في أدب السّجون مهيضة الجناح، امتلأت بالعذابات إلى حد العجز عن الطيران. ولقد فصل العلوي نفسه عن الأنا الحاجزة للتحرك بحرية داخل الفن و واقع التجربة، فأنقذ روايته من سطوة الأنا التي تظل في كثير من الكتابات معطلة للإبداع مكتفية بالسرد والتسجيل اليومي، أو تدوين مذكرات لتجربة أبطال لم يجتهد أغلبهم في البحث عن وعاء فني ملائم لمضمون تجربته.

 

إن رواية الثّقب الأسود قد راوحت بين الفن والواقع ، بين التجربة الذاتية والتجربة الجماعية، بين الواقعية والرّومنسية، بل إن الكاتب لم يشرك نفسه في أحداث الرواية وتجارب الشّخصيات إلا من خلال رؤيته وتجربته وأفكاره ومواقفه المتناثرة هنا وهناك من خلال أقوال الأبطال وأحوالهم. إن الأنا ليست أناه وإن كان يتحكم فيها ويبنيها كما يشاء، لقد تخلصت الرواية من عقدة الأنا الكاتبة، المنتجة والمعذبة في آن واحد مما جعلها رواية قادرة على استيعاب المعاناة والبناء الفني على حد سواء.

 

وعلى هذا الأساس صاغ العلوي روايته بأريحية الفنان الذي يرسم لوحته بهدوء وثبات وتدبر، فحدد زمان المعاناة وأطرها، ووزع الأدوار بين الشخصيات الرئيسية والثانوية بتناسق عجيب وتداخلت الأزمنة لتكون اتساقا في الحركة و الحدث. و لقد انفتحت الرواية على زمن يوحي بنهاية الأحداث ، صيف 96، تخلص فدوى من طليقها وانتهاء سنوات سجن خالد الشرفي، لكن سرعان ما ترتدُّ الرواية إلى سنة91 بداية المعاناة. وهكذا تتداعى فصول الرواية بأحداثها وأزمنتها وأطرها وشخصياتها الرئيسية والثانوية، وقد يغوص الكاتب في طفولة البطل كلما احتدت وطأة المعاناة، ليوثق صلته بواقعه من ناحية وينفس عن كربته عندما يتعاظم الألم والوجع من ناحية أخرى.

 

والحقيقة أن الرواية لا تبدأ إلا لتنتهي و لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد، و ينطلق السرد والوصف في تداخل وتقاطع يفضي الواحد إلى الآخر، ولقد تواترت المقاطع السردية والوصفية المتداخلة في إنشائية تنبع من وجدانية الفنان ووعيه بتقنيات الرواية، و مثال ذلك قوله ” لم تكن يوما تراه إلا في صورة ثور أحمق كريه، ثور مخصي، يخور إذا تكلم ويكرع إذا شرب و يتجشأ ما يعلف. كان الجميع يهابونه حتى الصغار الذين كان يمر بهم وهم يلعبون..و بعضهم يرد السبة بعشر أمثالها ويعيره ببطنه المترهل، ومؤخرته الكريهة ورأسه الكبير الأصلع المليء بالشحم لا بالمخ”.

 

في الرواية مشهد لجريمتين في عالمين يبدوان مختلفين، عالم السجن وعالم خارج السجن وكلاهما يلتقيان في المعاناة الإنسانية، و في الشعور بالقهر و الإهانة، عالم خالد الشرفي السجين وعالم فدوى الطليقة. و يتقاطعان في الكشف عن الفاعل الحقيقي الذي كان سببا في ارتكاب جريمتي القتل.

 

ففدوى قتلت دفاعا عن شرفها الذي أراد لزهر الماص طليقها أن يدنسه بالاغتصاب ” لقد طلقها و تزوج غيرها، لكنه أرادها أن تبقى جارية، متاعا من أمتعته وملكا من ممتلكاته التي لا يتجرأ عليها أحد ” ص 29، وعامر الصالحي قتل نفسه بعد أن لطخ السجان شرفه بإباحة اغتصابه من قبل المساجين المجرمين. والجريمتان لا يُسأل عنهما عامر الصالحي وفدوى وإنما المسؤول عنها أجهزة النظام الفاسد الذي أطلق يد لزهر الماص ليضيق الخناق على طليقته ويعيث في حياتها فسادا ومرارة، ويرصد خطواتها ويحبس عليها أنفاسها ويحاصرها في أحلامها. فالسجن واحد لفدوى الطليقة ولعامر الصالحي السجين السياسي الذي لم يجد السجان من وسيلة لإذلاله والإجهاز عليه إلا باغتصابه.

 

و رغم أن الرواية تنوء بأعباء جريمة الاغتصاب والقتل فإنّها لا تخلو من مقاطع تنأى بالقارئ إلى عالم الطفولة والأمومة والحب العذري، إنها واقعية يحاول فيها الكاتب أن يتخلص من مرارة القهر والتنكيل إلى رومنسية يحل من خلالها في شخصيات يجلِّي عنها همومها ونكباتها فتنطلق أرواحها تعبُّ من عالم الطبيعة والكون الفسيح والحب، لتمتلئ الشخصية بالتفاؤل والأمل المخصب “أعدك أن أعيش وأقاوم من أجلك ومن أجل أمي وأختي سناء، ومن أجل هذا الوطن الكئيب الذي يشاركنا السّجن وينتظر الخلاص ” ص 158. إنها واقعية تتجاوز النّقد التقليدي لأحوال الفئات الاجتماعية وعلاقتها المتوترة التي عجت بها الرّواية العربية إلى واقعية تعيد إلى الضمير الجمعي ما قد يكون فاته من وعي بالمأساة أو أعوزة إدراك المعاناة في إبانها ليكاشف بها من تورط فيها، ومن كان ضحية لها، لذلك صاح خالد الشّرفي في انفجار مدو “قتل عامر بعد أن ذبحوا رجولته وشرفه وكبرياءه…”.

 

 

 

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet