هي لا تفـــهم (قصـــة)

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

أماني بوسليمي

 

أمي… أنظري إليّ .. أمي اشعري بي .. أمي اسأليني .. أمي استمعي لي .. أمّي أنتظر منكِ أن تشرحي ما بي .. أمي دعك من إخوتي وأشغال المنزل .. أمي أنا بحاجة إليك، تفرّغي لي. هكذا أصرخُ دون أيّ صوت، داخليّا أصرخ، بكماء أنا حين تعلق الأمر بي، ضحكاتي المزيّفة تبدو حقيقيّة نوعًا ما، الجميع يصدّقها حتّى أمي. هم لا ينظرون إلى عينييّ، نصف الحقيقة، الحقيقة كاملة… لا أعلم.

 

الضحكة تغطيها، تُناقض ما أشعر به، أمي أغترت بها، خارجيا الفردوس بسعادته وداخليا الجحيم بناره، ومن يهتم لما بداخلك مادام الخارج منظّما، كأنك لم تشق يومًا….

 

الكتمان، وبسببه كانت أمي تظن أنّني الوحيدة من بين إخوتي التي لا أتأثر كثيرًا، الأقلّ إحساسًا والأقسى قلبًا، أمّي لم تقرأ صمتي جيدًا، أمّي لم تدرك أنّني الأضعف بينهم والأحوج إلى الفضفضة، الاتّكاء، العناق والبكاء… أمّي حاولي معي قليلاً، أمّي فقط سؤال واحد منكِ، أمّي قولي لي “شبيك؟” عندها سأركض لحضنك وأخبرك ما بي.

 

أمّي أنا أنتظر، لا تطيلي، أمّي لم تسأل. أنا مازلت أنتظر، هي لم تلاحظ حتّى أنّني أطيل البقاء في غرفتي، العجز عن مغادرة سريري، تظنّ أنّني مشغولة بالحديث مع صديقاتي: “ماما ما عنديش صحاب” ،تركوني جميعًا بعد أن سلبوني كلّ الاهتمام و المشاعر، كانوا يطعنونني تباعًا. وثقت بهم كثيرًا، كان يجب أن أغادرهم منذ انقباضة قلبي الأولى لكنّي استمرّيت، أهدرت الحبّ، أغرقتهم بالفرص على أمل البقاء، وكما فعل دوستويفسكي، وفي كل مرّة مشطت شعر الخيبة وغنيت لها.

 

كنت أخاف الوحدة كثيرًا أماه، لكن بعد إفلاس عاطفي وعدم القدرة على التّعامل مع البشر مجدّدًا أصبحت أنا وهي على وفاق، أمّي ما الأمر؟  هل أنت عاجزة عن استفساري حقًّا ؟ أمي !!! .. لا أحد يسمع صراخي .. باطني! .. طبعًا لن يسمعه أحدٌ، لا أمّي و لا حتّى العالم برمّته كرائد صرخ في الفضاء على أمل إنقاذه قبل نفاد قارورة أكسيجينه ولم يسمعه أهل الأرض، ما أبعدنا…

سأنفجر إن واصلت، سأستنزف ما بقي منّي إن استمريت، عندها لن يصبح هناك فرق بيني وبين الوعاء الفارغ، يجب البوح.

  • أمّي!
  • ماذا ؟
  • ألم تلاحظي شيئًا؟
  • أيّ شيء؟
  • انسي الأمر أمي.
  • أخبريني.
  • لا شيء، سأذهب للنّوم.
  • النّوم في السّادسة مساءا؟؟
  • أنا مُتعبة، تصبحين على خير.

أغلقت الباب، مرحبًا بالظّلام، مرحبًا سريري، تفضلي بالدّخول أيّتها الكآبة، و لا تنتظر مني إذنًا للدخول أيّها الحزن، شاركاني ما صنعتماه منّي، هل تريدان شيئًا للتّضييف ككوبين من التّشاؤم بدل القهوة مثلا؟ أو ما تبقى من قلبي كقطعة مرطّبات تتقاسمانها، لا تختلسي النّظر أيتها الخيبة من بعيد تعالي وأحضري المشط معك، أعلم ما تريدين.

دقائق، فتح الباب ، انبثق بعض النّور، إنّها أمّي.

  • لم تنامي بعد؟
  • سأنام الآن.
  • كنتِ تحدّثين أصدقائك؟؟
  • أمّي ليس لدي  أصدقاء.
  • والذين حدّثتِني عنهم؟
  • لم يعودوا كذلك…
  • جربي التعرف على  أصدقاء آخرين.
  • أمّي، أرجوكِ…
  • عليك التّجربة، الاختلاط مع الجميع، ثم الاختيار، فالجميع ليسوا متشابهين، يُمكنك معرفة الأفضل.
  • أمي، أتعلمين أصبحت أعاني من فوبيا الأصدقاء والصّداقة، لا أريد أصدقاء جددًا، أصبحت أعلم النّهايات جيّدًا، لطالما تشابهت معي البدايات. أمي إنّ داخلي مشوّه، لم أعد أصلح لأيّ شيء.
  • إن كان اختيارك الأوّل للأصدقاء خاطئًا فما المشكل؟ أنت فقط تتعلمين درسًا من دروس الحياة، المفترض أن تكوني سعيدةً، لا أن تحزني لأجل بضعة أصدقاء.
  • أمّي إنّ الأمور اختلطت، حزني ليس بسببهم فقط، هناك أشياء أخرى تجهلينها.
  • لازلتِ صغيرة على كل هذا، شغلي بعض الموسيقى واصنعي حفلةً في غرفتك، ربّما يتلاشى ما تشعرين به، أو ما رأيك في صلاة ركعتين لترتاح نفسك قليلاً؟ حينها سأذهب لأحضر لك العشاء.
  • أمي .. لا داعي لإحضار العشاء، سأصلّي وأنام.
  • لكن العشاء…؟
  • أكلت مسبقًا، أشعر بالشّبع، تصبحين على خير.
  • تقبّل الله، وتصبحين على خير.

 

أغلقتِ الباب وذَهبتْ ورغم القليل من الفضفضة معها هي لم تفهمني، دائمًا ما تجد حلولاً تظنّ أنها ستنفع، لكنّها لا تنفعني بشيء غير الصّلاة التي تريحني قليلاً. أمّي لا تعي أنّني أتألّم من نفسي، من البشر والمجتمع، وكلّ شيء حشر معي هنا، وأرغمت على التّعايش معه، لا تعي أنّ من يعرفني أصبح ينعتني بالمتكبّرة والمغرورة، والسّبب أنّني منغلقة على ذاتي وعالمي الذي صنعته وأُنهي الحديث سريعًا.

 

أقطع كلّ سبل التّواصل بسرعةٍ كنيزك مرّ في السّماء ولم يلحظه أحد، لكنّهم يجهلون أنّني تعبت، بل سئمت التّواصل مع البشر والنّسخ المكرّرة من علاقات الصّداقة، وكما قلت سابقًا إنّني أعي النهايات جيّدًا.

 

أمّي لا تعي أنّ لبلدي هذا يدًا متواطئةً مع الاشمئزاز والحزن، إنهم يلعبون دورًا مهمًّا في تعكير حالتي يوميًّا دون أيّ مقدمات، بل لا تعي أنّني مشوّشة ،بل أنّني خضت ومازلت أخوض صراعاتٍ نفسيةً حتى أنّني انفصمت، أمّاه لا أعلم ما أريد، أو عمّا أبحث. أحدُهم عبثا بإعدادات حالتي، أمّي لم تفهم مهما حاولت التّبسيط، لا هي تفهمني و لا العالم سيفهمني، واللّعنة حتّى أنا لا أفهم نفسي، وكلتك أمري يا الله .

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet