منجم المعدن بغارالدماء

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلم: محمد الوصلي

إنّ مفهوم الحماية يحمل بُعدًا إيجابيّا لا يخفى على أحد ، ذلك أنه من المتداول في اللّغة أنّ القويّ يحمي الضّعيف من غوائل الفقر والجهل والمرض… ويرتقي به إلى الأفضل. وقد استعملت فرنسا مفهوم الحماية عند دخولها إلى تونس، وإمضاء المعاهدة مع الباي محمد الصّادق مجرّد طُعم لكي تطفئ غضب الباي وحاشيته. ولكن الواقع الذي مورس فيما بعد، أي عندما تغلغلت في مفاصل الإدارة والبلاد كان أبعد ما يكون عن مفهوم الحماية حيث كان الاستغلال للعباد ولثروات البلاد صارخًا في غياب المقاومة التي توقّفت بعد وقت قصير من الاحتلال سنة 1881م، وفي غياب النّقابة القوية والقوانين التي تحمي حقوق العمال وثروة البلاد من النهب والتّهريب.

الخصائص الطبيعية

في هذا المناخ، حيث نشهد عنصرين مختلفين يعيشان على رقعة ارض واحدة؛ الفرنسي المحتلّ والتّونسي المقهور، الأوّل يمتلك القوّة والقهر والاستبداد والمعرفة العلمية والتكنولوجيا الحديثة والحضارة المادية القوية. والثاني التّونسي المقهور، الضّعيف، الفقير ،المُستغل، الأمّي. وخلال الثّلاثينات من القرن الماضي تم اكتشاف مادة ثمينة جدًّا في منطقة “وادي معدن” ألا وهي الزّئبق، إلى جانب الرّصاص وذلك من قبل الخبراء الفرنسيين. يوجد المنجم في وادي معدن، وتمسح مساحته 8 كم2.

خصائص منطقة المعدن الطبيعية منطقة جبلية وعرة بجانب وادي “واد معدن”، ونجد غابات متنوعة في تكوينها حيث نجد أشجار الفلّين ونباتات كثيرة أخرى نذكر منها الديس و بوحدّاد الخ..

الخصائص السكانية

نجد عدة تجمعات سكنيّة متباعدة (دواوير)، وكانت المساكن في ذلك الوقت عبارة عن أكواخ مبنية بالطّوب ومغطاة بالدّيس.. وكان النّاس يعيشون على الفلاحة الصّغيرة، محدودة الإنتاج وتربية الماشية، وكان النّمط الاقطاعي يظهر في وجود فلاحة وخماسة تربطهم غالبًا علاقات أسريّة ودموية.

ومنذ اكتشاف المنجم بدأنا نشهد تحوّلا كبيرًا على عدّة مستويات حيث تم فتح طريق وتعبيده من غارالدّماء إلى المنجم بطول 17 كم ،و تركيز معدات ضخمة لمعالجة المواد الأوليّة المستخرجة من المنجم وحركيّة هامة جديدة لسيارات المسؤولين والمهندسين وشاحنات لنقل الرّصاص والزئبق إلى ميناء بنزرت، ومن ثمة إلى فرنسا. كما أق الفرنسيّون خط تيليفيريك téléphérique لنقل بضائع مختلفة. وبعد بضع سنوات من بداية استغلال المنجم تمّ بناء مساكن لفائدة الفنيين الفرنسيين والمهندسين، كما تم بناء حانة لهم، وشيدت لهم مدرسة لتعليم أبنائهم هي مدرسة المعدن.

عمّال منجم المعدن

أغلب العمال في المنجم من أبناء المنطقة، وكانوا يعملون بالسّاعد والرّفش لاستخراج المادة الخام، أمّا الفنّيون الذين يراقبون ويعتنون بالآلات ومولّدات الكهرباء فهم من الفرنسيّين. ويتمثّل نشاط العمال وعددهم نحو 300 عامل في حفر الخنادق واستخراج التّراب المشبع بالزّئبق أو بالرّصاص ووضعه في عربات صغيرة، ثم إخراجه إلى المعالجة. ومن خلال الوثائق التي مازالت في حوزة بعض العمال نستخلص:

مدى الحيف الذي لحق العمال من قبل السّلط الفرنسيّة، وهذه المؤسسات التي تستغل المنجم، وسبب ذلك يتمثّل في تسلط المستعمر من ناحية وأميّة العمال التي جعلتهم لا يدركون المعنى الحقيقية لطبيعة المؤسسات المنتصبة وقت الاستعمار، و في هذه المنطقة بصفة خاصة.

لكن يجب أن نشير إلى النّشاط النّقابي فترة الاستعمار، حيث نجد لدى بعض العمّال اشتراكات تعود إلى سنة 1947 في الاتحاد النّقابي لعملة القطر التّونسي ( l’union syndical des Travailleurs Tunisiens : USTT ) ، وبداية من سنة 1955م بدأ العمال يتحوّلون إلى الاتّحاد العام التّونسي للشّغل الذي انصهر في القضيّة الوطنية من أجل الاستقلال، وقد انبعث هذا الاتّحاد منذ 20 جانفي 1946م.

إنّ المتتبع لسيرورة الحياة في المنطقة المنجميّة بالمعدن يلاحظ أنّ عوامل كثيرة ساهمت في ركود الحركة النّضالية والنّقابية والسّياسية بهذه الجهة إلى أن تمّ غلق المنجم بسبب نقص كميّة الزّئبق، ومن بين هذه العوامل غياب النّخب المثقفة الواعية، واستفحال الأمية، وبُعد المكان عن نشاط الحركة الوطنية المناهض للاستعمار، والذي ظهر خاصة بعد الحرب العالمية الأولى إبان صدور كتاب الشّيخ عبد العزيز الثّعالبي” تونس الشّهيدة “.

خاتمــــة

هذه إذن لمحة عن منجم المعدن وحياة العمّال فيه. وقد تمّ إغلاقه في ديسمبر عام 1955م، وتم تسريح العمال الذين عادوا إلى حياتهم الرّيفية السّابقة، وخيّم الصّمت على المنطقة بعد صخب وحركة وإنتاج ودويّ الدّواليب والآلات ومولّدات الكهرباء، وحركة التّلفريك، كل ذلك دام قرابة 20 سنة. وجاء الاستقلال وفرح النّاس بالحرّية، ولكن لم تتغيّر الأحوال، خاصة على مستوى نوعية الحياة ماعدا بعض العُمّال الذين أقاموا مطاحن مستغلين خبرة تحصّلوا عليها في المنجم، وهاجر آخرون إلى فرنسا للعمل هناك، وعدد كبير من هؤلاء بنوْا منازل في مدينة غارالدّماء مودّعين الرّيف وما يوحي به إليهم من حياة صعبة وفاقة مدمّرة .

المراجع:

  • المنذر المرزوقي ومحمد الكحلاوي، من ضحايا الاستثمار الاستعماري بتونس، عمال منجم وادي معدن (غارالدماء) مثالاً، دار نقوش عربية، الطّبعة الأولى 2008 م.
  • عبدالحميد الهلالي، جندوبة 1881 – 1956 علاقة الحركة الوطنيّة بالأريـــــاف، منشورات المعــــهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية، 2009م.
يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet