الزّيتونيّون وتأسيس الجمعيّـات خلال الفترة الاستعماريّة

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلم: مكرم الخشناوي

لا شكّ أنّ للجمعيّات الثقافيّة والمنظّمات دورًا مهمّا في صناعة المجتمعات المتحضّرة والحفاظ على هويّتها الوطنيّة وترسيخ الوعي التّاريخي والحضاريّ. وقد كان للزّيتونيّين دور فعال في الحركات التّحرّريّة في فترة تاريخيّة حاسمة وحُبلى بالأحداث والمنعرجات التي شهدها المجتمع التّونسي المعاصر، هذا المجتمع الذي صارع المستعمر الفرنسي وتمكن من تجاوز جملة من التحديات الكبرى في طريقه إلى التّحرر والانعتاق من ربقة الاستعمار. وفي هذه الدّراسة سوف أقتصر على أمثلة من مكوّنات المجتمع المدني وتأثيرها على الواقع التّونسي ومحاولات إخراجه من بوتقة التخلّف الذي عاشه تحت ظلّ الاحتلال وظلم السّلطة السياسيّة في ذلك العهد .

وقد ظلّ جامع الزّيتونة مدرسة شرعيّة عالية عُرف بجامعة الزّيتونة، إلى جانب كونه مسجدًا تؤدّى فيه الشعائر الدّينية. واستمرّ تدريس العلوم الإسلاميّة فيه على مدى قرون عديدة حتّى صار على حدّ تعبير حسن حسني عبد الوهاب “ممثّلا لأسبق المعاهد التّعليميّة للعروبة مولدًا وأقدمها في التّاريخ عهدًا”. وذلك منذ سنة 120 هـ/737م، وظلّ على مرّ العصور منارة للتّعليم والبحث والاستنباط، فتخرّج منه الفقيه واللغوي والأديب، وأصبح أكبر جامعة إسلامية عرفها المغرب بأسره، وتفرّع من دوحة الزّيتونة المباركة أغصان علم وفلسفة زيّنوا الثّقافة البشريّة في المغرب والمشرق”([1]).

وكان القرن الثّامن الهجري (الرّابع عشر ميلادي) والذي يليه عهد الازهار في العلوم، حيث اعتنى ملوك بني حفص بالعلم والعُلماء والمؤلفات، وتمّ إنشاء عديد المدارس منها المدرسة العنقية، والمدرسة المنتصريّة الّتي كان المتخرّجون منها يقصدون جامع الزّيتونة للتعمّق في الدّراسات اللّغوية والدّينية.

وبدأ نكوص العلم وتراجعه حين انتقضت عرى الدّولة الحفصيّة ووقعت البلاد تحت سيطرة الإسبان في أواسط القرن العاشر للهجرة، فاشتغل العلماء بتعاطي الحرف، وضعفت الحركة العلميّة، وازدادت الأحوال سوءً في العهد التّركي حتّى منع بعض العلماء من إلقاء دروسهم بجامع الزّيتونة([2]) .

ومع بداية الفتح العثماني سنة 981هـ/1574م، وإنشاء جوامع جديدة حنفية المذهب ظهرت في تونس نزعة معمارية اقتبست من المشرق، وتحديدًا من الفنّ العثماني بعد أن طغى في مطلع الدّولة الحفصية التّأثير الموحّدي.

كما اعتنت سلط الفتح العثماني إلى جانب تهيئتها للجوامع الحنفية، بأحوال الجوامع المالكية والّتي يأتي في صدارتها جامع الزّيتونة، وقد حرص العثمانيّون على إبقائه رمزا لإشعاع المذهب المالكي بالقطر التّونسي([3]).

لم تكن الرّغبة في تأسيس الجمعيّات مرتبطة فحسب بالتّحوّلات الاجتماعية والاقتصادية، بل كذلك بالتحوّلات الثّقافية النّاجمة إلى حدّ بعيد عن سعي فرنسا لتحدّي مشاعر التّونسيين مثل أحداث الزّلاج بتاريخ 7 نوفمبر 1911م والّتي مثّلت تعدّيًا صارخًا على المعتقدات الدّينية للشّعب التّونسي، وكذلك عقد المؤتمر الأفخرستي في قرطاج خلال شهر ماي 1930م والاحتفال بخمسينيّة الحماية. وكان لهذه التّحديات تأثيرات على الحركة الثقافية بتونس، والّتي أصبحت أكثر تمسّكا بالهوية العربية الإسلامية. وهو ما يفسّر كون أغلب الجمعيات الّتي برزت في تك الفترة كانت جمعيات ثقافية ترمي إلى الدّفاع عن الهوية والتمسّك بالذاتية الّتي أصبحت في عيون النخب المثقفة مهدّدة بالذوبان بحكم السّياسة المتبّعة من قبل فرنسا والرّامية إلى تغيير ثقافة المجتمع لمزيد إحكام قبضتها عليه.

كان بروز الجمعيّات الثّقافية وانتشارها مرتبطًا برغبة النخب المثقفة الزّيتونية في الدّفاع عن الشّخصيّة العربيّة الإسلاميّة، وهو ما نلمسه من خلال القانون الأساسي لمختلف هذه الجمعيات الثقافيّة وأنشطتها، فقد كانت نشأة هذه الجمعيات استجابةً لواقع ثقافي جديد مخالف لثقافة المجتمع الزّيتوني التّونسي السائدة، فكانت الجمعيات الثقافية الّتي نشأت خلال هذه الفترة ساعية إلى تجاوز سلبيات هذه السّياسة ولم يكن دافع المحتل الفرنسي من قانون الجمعيات سنة 1936 ناجعًا في خلق مناخ ديمقراطي في البلاد.

إنّ جمعيّات المجتمع المدني العصرية ظهرت في سياق نشأة الدّولة العصرية الغربية القائمة على فكرة العقد الاجتماعي والساعية إلى تفعيل مشاركة الأفراد في إدارة الشأن العام. لكن عزوف الدّولة عن تلك المهمة دفع المجتمعات إلى استحداث طرقها لفرض مشاركتها، فبدت الجمعيات في تعارض مع الدّولة شاغلة للفراغات الّتي تتركها الدّولة عجزًا أو تقصيرا، وتكون مستقلة عن السّلطة. وتختلف هذه الجمعيات عن نظيرتها التّقليدية بالدّور الإرادي عند انخراط الأفراد والغاية التّطوّعية وغير الربحية([4]).

وفّرت الحماية الفرنسيّة الإطار التّشريعي المؤسس للمجتمع المدني العصري بسن قانون الجمعيات الأول في 15 سبتمبر 1888([5]) . ولم تكن غايتها من إدخال الجمعيات العصريّة إحداث مدارس للديمقراطية على شاكلة ما لديها في المجتمع الأوروبي، ولا تربية الأجيال على اختيار المسؤولين داخل الهياكل المسيرة بل كانت غايتها الأولى من إدخال هذا النوع من التّنظيمات الاجتماعية إرساء ازدواجية أخرى من أشكال الازدواجية الّتي فرضتها من خلال منظومات موازية للمنظومات التّقليدية المؤطرة للمجتمع التّونسي([6]).

كما سعت من خلال هذا القانون إلى التّحكّم في الجمعيات عبر ربط تكوينها بالترخيص وجعلها جمعيات على المقاس بالتحكّم في من يشرفون عليها ضمانًا لولائهم([7]).

وهو ما جعل البعض يصفه بأنه قانون “وقائي”([8]).

وسوف أقتصر على ذكر أمثلة من تلك الجمعيّات والمنظّمات ذات الأهداف الثقافية والسياسيّة والاجتماعيّة، وذلك مثل:

1)       نادي الفتاة التّونسيّة([9])

وهو النّادي الوحيد والأول من نوعه الذي ينبثق من قبل الفتيات أنفسهن ومن مجموعة طالبات دخلن جامع الزّيتونة لمواصلة تعليمهن وكنّ يتطارحن فيه قضاياهنّ الثقافيّة والمعرفيّة.

2)       الاتحاد الإسلامي للمرأة  التّونسية([10])

يعتبر أهمّ منظمة نسائية تونسيّة وأبرز منظمة في تاريخ الحركة النسوية التّونسية ومن أهم أهداف هذا الاتحاد:

  • تجميع النّساء التّونسيات المسلمات من أجل التّعارف والصداقة والتّضامن للدفاع عن عائلاتهن وعن الحرّيات والديمقراطية.
  • توجيه المرأة والفتاة التّونسية نحو التّعليم في حدود الأخلاق والرّوح الاسلامية. والرفع من مستواها الثّقافي والاجتماعي والمدني.
  • تنظيم دروس ومحاضرات واجتماعات وحفلات، ونشر مجلاّت، وكان المولد النّبوي هو تاريخ احتفاله الرّسمي.
  • تأسيس وتطوير المنظمات في صالح الطفولة والشّباب بفضل بعث شعب خاصة.
  • إخراج النّساء من جهلهن وإعطائهن ثقافة تتماشى وطبيعتهن (شؤون منزلية، تطريز، صحّة تربية أطفال، تربية اسلامية ووطنية).
  • تقديم العون للمساجين السّياسيين والمناضلين، وقد تضامن الاتحاد مع إضراب الجوع في الجامعة التّونسية.
  • مساعدة الحركة الوطنية وشباب شمال إفريقيا.

3)       جمعية المرأة:

تأسّست سنة 1944م، دعت الجمعية إلى عقد اجتماع نسائي بأريانة. وزعت عليهن وثيقة الجمعية الّتي تنادي فيها كافة النساء إلى النهوض بوضع المرأة المسلمة حسب أصول الشريعة الإسلامية وتعلّم اللغة العربية لغة الآباء والأجداد.

وقد كانت الجمعية تعتبر فرعا من جمعية الشبان المسلمين.

رئيس الجمعية زوجة الشيخ محمد صالح النيفر رئيس جمعية شبان المسلمين.

أمّا على المستوى النقابي – الاجتماعي:

تكوّنت عدّة جمعيّات لعلّ أبرزها “جمعيّة الحيّ الزّيتوني”، وذلك سنة 1945م والتي تحوّلت إلى “لجنة الحيّ الزيتوني”.

4)       جمعية أو لجنة الحي الزّيتوني:

نلاحظ أنّ تأسيس هذه الجمعية جاء للظّروف الملحة الّتي فرضها الواقع الزّيتوني في ذلك الوقت، ويبرز ذلك من خلال الرّسالة الّتي بعثت بها مشيخة الجامع الأعظم سنة 1942م إلى الوزير الأكبر الهادي الأخوة. والّتي مفادها أنّ عدد التّلاميذ الزّيتونيّين من خارج مدينة تونس المحتاجين إلى السّكنى بالمدارس بلغ 2400 تلميذ، وأنّ المدارس التي تقع تحت نظر المشيخة وعددها 24 لا تتّسع لأكثر من 540 إذا روعي في السّكن القواعد الصّحية، وأنّ المشيخة العلمية قد أسكنت فيها للضّرورة 1600، وبقي الزّائد على هذا العدد في حرج وضيق. وبين الشّيخ جعيط في رسالته أنّ المشيخة رأت أن تستعين فيما يحلّ هذه المشكلة بنخبة من ذوي التّفكير والنّية الحسنة لحلّ الاشكال([11])

وفي رسالة أخرى تم العثور عليها في الأرشيف الوطني للشّيخ محمد الطاهر بن عاشور شيخ الجامع الأعظم وفروعه، مؤرخة بتاريخ 24 أفريل 1945م موجّهة إلى الوزير الأكبر صلاح الدّين البكوش يأكّد فيها على أنّ  التّلاميذ في حاجة ماسة إلى مساكن تفي بعددهم وتناسب الشّروط الصّحية والمرافق الحيويّة. ويؤكد على أنّ المدارس الموجودة لا تفي بإسكان جميع التّلامذة الوافدين من المملكة.

وفي المجال السّياسي نذكر –على سبيل الذّكر لا الحصر- “جمعيّة الإخوان الزّيتونيّين” وذلك سنة 1945، ومن أهدافها:

جمعية الإخوان الزّيتونيّين([12])

من أهداف جمعيّة الإخوان الزّيتونيّين رفع المستوى الثّقافي للطّالب الزّيتوني وتوطيد العلاقات الأخويّة بين التّلامذة بواسطة المحاضرات الأدبيّة والأخلاقيّة.

ونلاحظ من خلال مراسلة من مدير مصالح الأمن بتونس في 17 جوان 1947، ردّا على رسالته المؤرخة في 8 جانفي من السّنة نفسها عدم موافقة الوزارة على منح التّأشير لجمعية «الإخوان الزّيتونيين» باعتبار  أنّ بعث هذه الجمعية لا يُرجى منه خير، ورغم ذلك فقد تأسّست الجمعية الأمر الذي يجعلنا نستنتج أنّ مشيخة الجامع الأعظم على عهد الشيخ ابن عاشور كانت أكثر نفوذًا من مؤسّسة العرش في عهد الأمين باي.

ولعلّ هذا الصّراع الذي بدأ يظهر بين جامع الزّيتونة والعرش، خاصّة على خلفية تجاوز الدّولة لمؤسسة العرش خلق لهذه الجمعيّة مشاكل كثيرة، ولعلّ أبرز ما وجدته هو إغلاق مقارّها ومضايقة أنشطتهما وإتلاف أثاثها([13]).

ورغم ذلك فإنّ الجمعية استطاعت أن تتجاوز هذه الأزمة، وتمكّنت من العودة إلى النشاط بقوة، فعقدت يوم 27 نوفمبر 1947م جلستها العامة بقاعة الخلدونيّة في تونس، وجدّدت هيئتها، وقد أصبحت على النّحو التّالي([14]):

وقد أصدرت الجمعية ثلاثة أعداد من مجلتها “البدر” عام 1921م تحت إشراف محمد مناشو وإدارة تلميذه محمد العربي المشيرقي حيث أظهرت المجلّة في الأعداد المعنيّة ميولاً نحو الجامعة الإسلامية أكثر منها نحو الوطنيّة، ولهجة معتدلة حسب تعبير مصلحة المراقبة السّياسية للأهالي. والتزمت هذه المجلة منهجا علميّا في البحث، ودراسة تاريخية وأدبية عميقة، تسودهما الروح الدّينية والأسلوب العلمي على حد تعبير الشيخ محمد الفاضل بن عاشور([15]).

وفي خـــــــاتمة هذه الدراسة المختصرة نلاحظ أنّ الزّيتونيّين ساهموا في تأسيس عديد الجمعيّات والمنظمّات الثّقافية والاجتماعية الّتي تركت أثرها في المسار التّاريخي للشّعب التّونسي، هذا الشّعب الذي خاض نضالات كثيرة لفرض حرّيته ونيل استقلاله من المحتل الفرنسي الذي عمل على طمس الهويّة العربية الاسلامية للشّعب. فقد خاض الشّعب التونسي نضالات كثيرة ومريرة مثل أحداث الزّلاج وغيرها. ويعود ذلك إلى عديد العوامل لعلّ أبرزها الأطر القانونية مثل قانون 1888م الذي بموجبه أسّس التّونسيّون جمعيات ثقافية مثل الخلدونيّة وقدماء الصّادقيّة.

 

المراجع والهوامش:

[1]– عبد الوهاب، حسن حسني، ورقات من الحضارة العربية بإفريقية التّونسية، مكتبة المنار، تونس 1964، ج 1 ص، 31-32.

[2]– سلامة، الطيب، نظام التّعليم التّونسي، كتاب “ذكرى مرور ثلاثة عشر قرنًا على تأسيس الزّيتونة للشّريعة وأصول الدّين”، مطبعة الدّار التّونسية للنشر 1979، تونس، ص 66.

[3] – ابن عاشور، محمد العزيز، جامع الزّيتونة المعلم ورجاله، دار سراس للنشر، تونس 1991، ص 34.

[4] – م.ن، ص 24-25.

[5] – ر.ر.ت، عدد 02، 20 سبتمبر 1888، ص 02.

[6] – القسنطيني، الكراي، الجمعيات بين التأطير والتوظيف”… م.س، ص 18.

[7] – الرائد الرسمي، ص 2.

[8] – Belaid, « la diffusion des associations à but culturel en Tunisie (1881-1951) », in : Moreau (Odile), Réformes de l’Etat et réformistes au Maghreb (XIX-XXe siècles), Paris éditions L’Harmattan Institut de Recherche sur le Maghreb Contemporain, 2010, p 262

[9] – ابن سعيد (سامية): أحاديث المرأة في الصّحيحين، مركز النشر الجامعي، تونس، 2015، ص 341-342.

[10] – م. ن، ص 340.

[11] – المصدر نفسه.

[12] -ابن عاشور، الفاضل، الحركة الأدبية والفكرية في تونس. الدّار التّونسية لنشر، تونس 1972 ص. 217.

[13] – أ.و.ت ، سلسلة (E)، صندوق 509 ملف 422 ص غير مرقمة. رسالة من الشّيخ عبد الواحد المارغني إلى الوزير الأكبر صلاح الدّين البكوش بتاريخ 3/10/1946.

[14] – كرو، أبو القاسم محمد، «عودة الإخوان الزّيتونيين» في الزّهرة، تونس 9/12/1947.

[15]– أ.و.ت، سلسلة الحركة الوطنية، صندوق 9 ملف 1 ص 9، مذكرة أمنية تتعلق بالحادث الواقع في سوق البلفاجين صادر عن مصلحة المراقبة السّياسية للأهالي بتاريخ 8/3/1922.

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet