صالح الشّريف وعاكِف أرصُويْ في مهمة إلى برلين

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلم: د. مصطفى الستيتي

في نهاية عام 1914م زار الشّيخ صالح الشّريف التّونسي ألمانيا ضمن وفد كلّفته الحُكومة بزيارة ألمانيا. وبعد البَقاء هناك مدّة ثلاثة أشهر رجع الوفد إلى استانبول في النّصف الأول من شهر مارس من عام 1915م.  وكان لألمانيا هدفان من وراء دعوة هذه الهيئة العثمانيّة؛ أوّلهما أن تبيّن للدّولة العثمانية حُسن معاملة الألمان للأسرى المسلمين في ألمانيا، والهَدف الثاني أن تُقنع الأسرى المسلمين في برلين بمتانة العلاقات الموجودة بين الخليفة العثماني والدّولة الألمانية. وبالفِعل لعب الشّيخ صالح الشّريف دورًا مهمّا في هذا الشأن رفقة الشّاعر التّركي المعروف محمد عاكف أرصوي والشّيخ عبد العزيز جاويش المصري وآخرين.

الدّعوة إلى ألمانيا

الشّيخ صالح الشّريف التّونسي

خلال الحرب العالميّة الأولى كانت الدّولةُ العثمانية وألمانيا تقفان جنبًا إلى جنب في مُواجهة تحالفٍ واسع يضمّ على رأسه انكلترا وفرنسا وروسيا وإيطاليا والولايات المتّحدة الأمريكيّة. وكان من بين الأسرى الذين ألقت عليهم ألمانيا القبض عدد كبير من المسلمين، وكانت ألمانيا ترغبُ في استقبال هيئةٍ من قبل الحكومة العثمانيّة تُعاين حالة هؤلاء الأسرى وتشرحُ للعالم الإسلامي المعاملة الحسنة التي يجدونها من الحكومة الألمانيّة. وكان للقنصل الألماني في اسطنبول في ذلك الوقت دورٌ مهمّ في تحديد الشّخصيات التي تحظى بالاحترام والمحبّة لدى الرأي العام الإسلامي.

وقد حدّد القنصل الألماني مجموعة من الشّخصيّات على رأسهم الشّيخ صالح الشّريف التّونسي والشّاعر التركي محمد عاكف أرصوي وتمّت دعوتهم إلى ألمانيا لمعاينة أحوال مخيّم الأسرى المسلمين. وقد كان ضمن أعضاء الهيئة كذلك شخصيّات أخرى مهمّة مثل عبد العزيز جاويش وعبد الرّشيد إبراهيم وحليم ثابت وعالم جان إدريس. وبعض هؤلاء كان قد تمّ تكليفه بهذه المهمّة من قبل “التّشكيلات المخصوصة” التي كونتها الحكومة العثمانيّة. ومن الجدير بالذّكر أن صالح الشّريف التّونسي كان يحظى بشهرةٍ واسعة في الشّرق الإسلامي وشمال أفريقيا، وكان رفقة محمد عاكف من كبار المحرّرين في صحيفة “سبيل الرّشاد” التي تصدر في اسطنبول.

الوفد في برلين  

كانت هناك انتظارات كبيرة من هذا الوفد القَادم من البلاد الإسلامية، وكانت الدولة العثمانية  تسعى إلى حشد جميع المسلمين وتوحيد صفوفهم وقُلوبهم على هدفٍ واحدٍ. ومن المهم جدّا بالنّسبة إلى ألمانيا أن تتحرّك الشّعوب الإسلامية التي ترزح بلادها تحت الاحتلال وتعلن الثّورة فذلك يخدم مصلحتها ويخفف عنها الضّغط. ذلك أن قوة العدّو في فرنسا وانكلترا وروسيا تتوجّه نحو مناطق أخرى، وبالتالي تتشتّت وتتراجع حدّتها.  ولهذا السّبب كان التركيز في برنامج الوفد على تَوعية المسلمين وبيان طبيعة الوَضع وإقناعهم بحقيقة العدوّ الذي ينبغي عليهم محاربته.

محمد عاكف أرصوي الشاعر التركي المعروف

وفي هذا السّياق التقى أعضاء الوفد بالأسرى وخاطبوهم وشرحوا لهم الوضع وأصدرُوا عددًا من الصّحف بلغاتِهم، وقد تكونت في مبنى وزارة الخارجية في برلين “وحدة الاستخبارات الشرقية” (Nachrichtenstelle für den Orient/NfO)   لمتابعة هذا الشّأن والتركيز على العمل على دعم التّحالف العثماني الألماني. وقد عمل في هذه الوحدة عدد من المستشرقين الألمان العَارفين معرفة جيّدة بشؤون العالم الإسلامي بالتّعاون مع عدد من الشخصيّات الإسلامية المعتبرة، فألقوا المحاضرات وكتبُوا المقالات ونظّموا عددا من الأنشطة في هذا الغرض.  وبما أنّ الدّعوة لزيارة ألمانيا كانت من قبل وزارة الخارجية الألمانية فقد تم استضافة كل من صالح الشّريف االتّونسي ومحمد عاكف أرصوي في فندق “أدلُون Adlon” التّاريخي الفاخر على مقربة من بوابة “برندنبرغ” المشهورة في برلين. بيد أنّ محمّد عاكف لم يطِب له المقام في هذا الفُندق ففضّل بعد فترة الانتقال والسّكن في مبنى آخر مُتواضع.

في مخيم الأسرى   

تحت عنوان “مذكرات برلين” تحدث محمد عاكف أرصوي في المجلد الخَامس من كتابه “صفحات” عن مخيم “الهلال” للأسرى الموجود في “وينسدورف Wünsdorf ” بالقُرب من برلين. تحدث بتأثر واضح عن تلك الوجوه البائسة التي رآها مع رفيقه التّونسي في ذلك المخيم، عن أولئك الأبرياء الذين ِجيء بهم من شَرق العالم الإسلامي وغربه من قبل الفرنسيّين والانكليز والرّوس وتم حشرُهم في حرب شرسة لمقاتلة الألمان.  هؤلاء الأسرى الذين حُرموا من الحرّية والعلم والمعرفة، الذين كُذب عليهم وخُدعوا عندما أرسلوا إلى الموت وقد قِيل لهم “إنّ الألمان اِحتلّوا اسطنبول، وأخذوا خَليفتكم أسيرًا، ونُحن نحارب لكي نحرّر خَليفتكم، فهذه الحَرب من أجل تحرير خَليفتكم”.  فكان على أعضاء هذه الهيئة أن يشرحوا للأسرى حقيقة الحرب والأطراف المشاركة فيها وبيان المغالطات التي خُدعوا بها.  ولتحقيق هذه الغاية كان عاكف وصالح الشريف يتردّدان على الجامع الذي تمّ تشييده خصيصًا لهؤلاء الأسرى كعربون صداقة وإلقاء الدّروس والمحاضرات فيه.

بذل الرّجلان جهودًا حثيثة لإنارة عقول هؤلاء الأسرى وتغيير قناعاتهم، وفي هذا السّياق تم إصدار صحيفة تحت اسم “الجِهاد” وعملا على نشر المقالات فيها لتوعية القراء من الأسرى وغيرهم. وقد لقيت جهودهما استجابة من بعض الأسرى فقبلوا بالتّوجه إلى الجبهة السّورية التي كانت مُشتعلة كذلك في ذلك الوقت.   لكن مهما كانت الخدمات التي تقدم لهؤلاء فإن حياة الأسر تظل قاسيةً ولا يمكن أن تتحوّل إلى حياة طبيعية، ولهذا السبب فكثير من الأسرى لقي حتفه بسبب الأمراض، وتحولت الأراضي القريبة من المخيم إلى مقبرة لهم، وهي اليوم ماثلة  للعيان مازالت تَشهد على مرحلة صعبة عاشها هؤلاء “المساكين الأبرياء”.

 

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet