في المقــــــهى (قصة مترجمة)

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

تعريب من الفرنسية: نورالدّين خروف

ودون سابق إنذار أو علم مني، عاودتني ذكرى باريس يوم أن قصدتها منذ زمن بعيد، تحدوني الأوهام وقد وقع في ظني، كغيري من أبناء بلدي أنني سوف أجد عملا بكل يسر وسهولة. حللت بها إذن، ولحسن حظي كنت قد اتخذت حذري، فحملت معي ما وفرته من مال، والحق أنه كان مبلغا لا بأس به يمكنني من العيش بلا هم ولا غم طيلة شهرين على الأقل في تلك المدينة التي لا أعرفها.

*الكاتب: محمد ديب (1920 -2003م).: كاتب وأديب جزائري باللّغة الفرنسية في مجال الرّواية والقصّة القصيرة و المسرح والشّعر

وذات يوم وأنا أمر بزقاق من الأزقة ابتدرني فرنسي قصير القامة، بدين، ذو رأس في شكل بيضة، مكلل بشعر صوفي احمر، بالغ التجعد، حتى يخيل إلى الناظر إليه أن شعره هذا قد شوته النار لتوه وعرض علي تذكرتين صفراوين من تذاكر المترو، وما أسرع ما لفتت ملامح عينيه انتباهي.

لقد كانت شبيهة كل الشبه بالملامح المرتسمة في عيني الرجل الجالس أمامي في المقهى. قال لي:
–  ألا تريد أن تبتاع مني هاتين التذكرتين ؟أنا خارج لتوي من السجن،وليس لدي مال…
ودون أن أقول شيئا ، تناولت النقود من جيب سترتي الأيمن حيث أضع في العادة بعض الأوراق المالية الصغيرة، والقطع النقدية الأخرى اللازمة لمصروفاتي اليومية. وضعت النقود في يده، وقبلت بكل غباء، تذكرتي المترو. لكنني ما أن تداركت نفسي وحاولت استدعاءه لإرجاع التذكرتين إليه حتى كان قد غاب. لقد تصرم وقت طويل منذ ذلك العهد، ورأيتني ثانية في الجزائر، بلا عمل أيضا ..لنقفز فوق هذه الأمور كلها…

سألت جليسي:
– كم أمضيت من الوقت في السجن؟

فأجابني بنبرة هادئة:

– خمس سنوات…

أعترف أن خاطرة غريبة عبرت ذهني في تلك اللحظة: هاهي ذي ثلاث سنوات وأنا أجد في البحث عن عمل في حين أن صاحبي هذا لم يعرف، في حقيقة الأمر أية صعوبة طوال خمس سنوات. وشعرت لحظتها بضرورة معرفة كيف آل به الحال إلى مثل ذلك الوضع.
لاحظت أن شعورا من التعاطف مع هذا الرجل امتزج مع فضولي ذاك. ما شعرت بالخشية من الإنسان قط، أي كان هذا الإنسان، وعلى العموم، حتى المجرم، ليس بالإنسان الضائع إلى الأبد ط. إن ما ينبغي الخشية منه على وجه التحديد حيال أمثال هؤلاء الناس الذين يعتبرون حثالة المجتمع هو إيقاع عقاب شديد بهم قد يطفئ الشرارة الإنسانية بين جوانبهم، ويقتل في قلوبهم الدوافع النبيلة ويحيلهم إلى حيوانات ضارية. لكنني إزاء هذا الغريب شعرت بشيء مختلف كل الاختلاف، شيء يثير الفضول والاستغراب.
ألقيت عليه نظراتي ،فأغمض عينيه. هو جميل الطلعة حقا، ولحيته الرمادية المجعدة عند أطرافها موزعة بالتساوي حول وجهه، وهي توائمه كل المواءمة، وتضفي عليه طابعا روحانيا لا يمكن التعبير عليه. عندما فتح عينيه بعد لحظات، ألقى علي نظرة عذبة شفوقة، فاضطربت. وأفسح فضولي المجال لانطباع جديد كل الجدة، باعث على القلق. وكان أن تلفظت بأولى الكلمات التي خطرت في رأسي رغبة مني في قول أي شيء، وفي طرد الاضطراب الذي استبد بي على الأخص.
– اعذرني ، وددت لو أقدم لك شايا، لكنني لا أملك نقودا، اللهم إلا هذه لكي أدفع بها ثمن الشاي الذي احتسيته…

أريته الفرنكات في باطن يدي وقد امتزجت ببعض النثار، وبفتات خبز رمادي وبقش التبغ بعد أن جمعتها كلها من أعماق جيبي، فرفع حاجبيه وقد ارتسمت عليه الدهشة:
– ما هذا الذي تقوله يا صاحبي؟ لن تدفع فرنكا واحدا، أنا الذي سأدفع. أعذرني إن أنا لم أعرض عليك شيئا، فما ظننت أنك تريد تناول مشروب ما…
كدت أقول له إن الأمر لا يتعلق بي أنا. لكنه كان قد نادى النادل. وعندما طلب منه أن يأتينا بإبريق شاي بدا الاندهاش على النادل حيال هذا الطلب المفاجئ، وأوشك أن يقول: ماذا؟ ثم إنه تردد، وانطلق دون أن ينبس بكلمة…
قال جليسي:

_ ههه! ولم لا ؟المناسبة أهل لذلك،ألست معي ؟المرء لا يخرج من السجن في كل يوم…
وأخلد إلى الصمت، ولم يضف كلمة إلى أن وضع إبريق الشاي فيما بيننا.حينها واصل حديثه:
– لقد ربحت المال في السجن. كانوا يشغلوننا، وقد سلموني مستحقاتي كلها عند خروجي.
أمسك بالإبريق، وراح يملأ الكأس:

– أنا لا أعرف أحدا هنا. أرجوك اعذرني.

وعلى الرغم من حديثه هذا، فقد تبين لي أنه ليس بالإنسان الذي يصرف وقته في الثرثرة، جمله مقتضبة، وليست واضحة على الدوام. وجهت له لحظتها كلمات ما ظننت قط أنني أقوى على قولها لإنسان لا أعرفه
-وجهك صبوح..

ولم أتمالك نفسي بأن استطردت:

-إنك لا تشبه … مجرما…

قابلني بمظهر حازم، وتربع فوق دكته، وضغط بيديه على ركبتيه، وانطلق حديثه دفعة واحدة:
– أتظن أنني قاتل ..يا أخي؟ وأنني حيوان متوحش ؟ أنا غير ما تظنه. تحدث وقتا طويلا وهو يغمض عينيه بين الفينة والأخرى دون انقطاع. حديثه متئد، وصوته جلي وإن كان خفيضا، وشفتاه، وهما تتحركان ، تكشفان عن أطرافها الواضحة. وددت أن أذكر الآن كلماته كلها. كانت تنطوي على نبرات غريبة. ونظراته هي الأخرى ذات تعبير خاص، تعكس شفقته حتى أنها باتت تثقل علي، طفق يتحدث بهدوء لا يكاد إنسان يتحدث بمثله عن نفسه. وشعرت منذ تلك اللحظة أنني أفقد ثباتي ويقيني . جميع الأفكار التي خيل إلي أنها سند قوي غادرتني. وهذا الرجل الذي كنت أجهل وجوده قبل نصف ساعة فقط استطاع بكلماته ونظراته أن يقلب رأسا على عقب معالم الحياة التي تعودت عليها، ويكشف عن كذب الناس وزيفهم، أجل كذب الناس وزيفهم. وأنا أجرؤ على قول ذلك الآن، وعن ذلك الارتياح المنافق الذي يغطي الحياة ويلفها.

وأنا الذي ما تلقى إلى ذلك الحين إلا خيبة في إثر خيبة، وجدتني أتكيف مع كل شيء في قرارة نفسي وأتقبله. لكن لم ذلك يا ترى؟ لأنني تخيلت أن كل شيء سيعود إلى نصابه، ومن ثم فإنه يكفيني أن أتذرع بالصبر ، وجعلت أعزي نفسي قائلا:

– لو استطعت أن انتهز الفرصة مرة واحدة لأريتهم ما الذي أقوى على الاضطلاع به. لكن الإحساس بالطمأنينة الكاذبة خدعني عن نفسي أثناء ذلك، فجعلت أتقهقر كل يوم وأزداد انزلاقا نحو الهاوية.
لم اكشف شيئا عن اضطراب أمري لجليسي وإن كان قد لمس شيئا منه. ها هي ذي الحكاية التي رواها لي.

ما كان يريد القتل بل السرقة. وهي المرة الأولى التي يسرق فيها. وحسب ما استطعت أن أفهمه منه فإن عمله ذلك أملاه عليه الجوع والبطالة والسأم الرهيب المستبد به. هذه الأمور كلها جعلت تأكل صدره في آن واحد. وحدث ذلك في الظروف التالية؛ ذات مساء وفيما كان يهيم على وجهه دون عمل، اعترضت طريقه عربة تحمل من محطة القطار علبا كبيرة من الورق المقوى. انزلق وراء العربة، وشق بكل يسر إحدى العلب بسكينة. السائق يسير في المقدمة إلى جانب حصانه دون أن يدري بما يحدث وراء ظهره.
قال لي ملاحظا:

– لم أكن أعلم ما سأجده داخل تلك العلبة. لكنها كانت تحتوي على البسكويت لطبقة معينة من أهل المدينة. وقلت في نفسي وقتئذ ينبغي علي أن آخذ نصيبي.

اغترف البسكويت بكلتا يديه، وملأ به جيوبه ودس بعضا منه داخل قميصه. ثم أبصره السائق فألقى بنفسه عليه، لكن جليسي هذا ضربه بجمع يده على صدغه فهوى أرضا.

– تأملته لكنه بقي ممددا عند قدمي ووجهه مصوب نحوي، وعيناه جاحظتان وفمه فاغر .

وفجأة أصابني الذهول، انحنيت عليه، وأردت أن أرفع رأسه لكنه كان ثقيلا مثل قرمة الجزارة، ينزلق من يد إلى أخرى.

وبقيت عيناه محتفظتين بتعابير الغضب، وما أسرع ما بدأت تلك التّعابير تتحول إلى صلابة باردة. أحسست لحظتها أن يدي تتلطخان بالدم المنبجس من دماغه وخلال ذلك، ابتعدت العربة منسحبة وراء الحصان الأعمى. وانتصبت فجأة وانطلقت في الصباح مثل المجنون: يا ناس، لقد قتلت شخصا .. لقد قتلت..

وتصرم وقت قصير بين حدوث المأساة المداهمة الخاطفة واللحظة التي اقتيد فيها إلى مركز الشرطة، إلى السجن.

وبعد صمت قصير، استأذنني في أن يطلب شايا. كنا قد احتسينا إبريقين كاملين، وألح في طلبه.
– لم لا ؟ لدي النقود التي ربحتها في السجن وضرب جيب سترته ضربات خفيفة بباطن يده محدثا رنينا في القطع النقدية.

– لست على عجلة من أمرك. ليس لديك ما تفعله، في مثل هذه الساعة. إذن، ابق معي …
تأخرت ذلك المساء أكثر من المعتاد. وخارج المقهى، كان مطر معتم خشن مثل حبات الحمص يتلاطم ويجعجع بعناد.

 

 

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0
Visit Us
Follow Me
Tweet