علاقة العامّية التّونسية بالفُصحى

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلم: مصطفى الستيتي

عادة نحن لا نُفكّر في الأشياء القَريبة جدًّا منّا، والتي تُلازمنا باستمرار ونعيشُ معها، وهذا ينطبقُ على أشياء وحوادث كثيرة وعظيمة لكنّنا تعوّدنا عليها ولم تعُد تثير دهشتنا واستغرابَنا مثل شُروق الشّمس كلّ يوم وغُروبها، وانتصابِ السّماء فوقَنا، وعظمة البِحار وامتدادها والتي تُغطّي ثلاثة أرباع الأرض، بل وحتّى أصواتَنا الّتي تَنطق باللّغة التي نتحدث بها. فقد تعوّدنا على كلّ شيء إلى درجة أنّنا لم نعُد نفكّر إلاّ في الأشياء الطّارئة أو التي تبدُو لنا جديدة لم نرها من قبل، وهي وحدها التي تُثير اِستغرابنا ودهشتنا وتدفعنا إلى التّفكير والتَأمل. وهذا يَنطبق كذلك على  لَهجتنا العامّية التي نتحدّث بها كل يومٍ وتلازمنا وتعيش معنا ما حَيينا. فما مدى ارتباط لهجتنا العامية التونسية بالعربية الفُصحى؟ وكيف تحولت كلمات كثيرة من النّطق الفصيح إلى النّطق العامي؟

ترتبط العامية التّونسيّة ارتباطًا وثيقًا باللّغة العربية الفصحى، ولئن دخلت عليها كَلمات بربريّة وفرنسيّة وإيطاليّة وتركية وغيرها فإنّها لم تكن بالكَثافة التي تغيّر من ملامحها تغييرا كاملاً. والعامية الفصحى في لهجتنا نوعان: النّوع الأول ويتمثل في الكلمات المُفردة غير المركّبة مثل “يَاسِرْ” و”بَرْشَه” و “قْنَى” (بالقَاف المثلّثة) و غيرها من الكلمات. وأمّا النّوع الثاني فهي التّعابيــر المركّبة، وهي تظهر مفردة في العامية لكنّنا عندما نُفكّكها إلى أصلها الفَصيح تصبح تعابير مركّبة. والتّراكيب من هذا النوع كثيرة. ومثل ذلك: كلمات مثل “فِيسَعْ” التي تُفيد الحَث على السُّرعة والتي في معناها كذلك كلمة “إزْرِبْ”، و”وَقْتَاشْ”  الّتي تَأتي بمعنى الاستفسار عن الوَقت، و”كِيفَاشْ” الّتي تأتي بمعنى الاستفسار عن الشّكل والكَيفيّة، وَ”عْلاَشْ” والتي تَأتي بمعنى الاستفسار عن السّبب، و”بْلاَشْ” والتي تُفيد الشّيء الذي لا مُقابل له أي مجاني، و”مَا ثَمّاشْ” التي تُفيد معنى اِنعدام وُجود الشّيء. و”مَا سْمَعْتشْ” الّتي تُفيد مَعنى نفي السّماع، و”مَا رِيتَشْ” التي تفيد معنى نفي رُؤية الشّيء…ومثل هذا كثير جدًّا.

وإذا كان البَحث في علاقة النّوع الأوّل من الكلمات، أي الكَلمات المفرَدة بالعربيّة الفُصحى يَحتاج أحيانًا إلى الرّجوع إلى القواميس والمعاجم لتَبَيُّن هذه العَلاقة فإن النّوع الثّاني أي النّوع المركَب سَواء في شكل جُمل اِسميّة أو جُمل فعليّة يحتاج إلى التّفكير والتّدبر لفكّ شفراته. بل إن قليلاً من التّفكير في هذه الكلمات يدلّنا على أصلها العربي الفَصيح، لكنّها تغيّرت وتمّ اِختصارُها لأنّ اللّغة بطَبعها تنزَع إلى الاقتصاد والاختصار.

ولنَنظر في بَعض الأمثلة لكي يتّضح لنا الكَلام: فكَلمة “فِيسَعْ” مُكوّنة من حَرف جَرّ “فـــي” وكَلمة “السَّاعَة”، فَيُصبح التّركيب الأصلي الذي كَانت عليه قبل التّحوير هو: فِــي السَّاعَة، وهي في الأصل تَعني فِعل الشّيء في السّاعة المحدّدة له دون تَأخير، وشيئًا فَشيئا تغيّرت عن أَصلها وتمّ اِختصارها إلى كلمة واحدة هي “فِيسَعْ”.

وكلمة “عْلاَشْ” التي تُفيد الاستفسار عن السّبب والكَيفيّة، فهي في الأصل مُكونّة من ثلاثة مفردات هي: عَلى أيِّ شَيء؟ ثم تم اِختصارها مع الزّمن لتَندمج الكَلمات الثلاث في مفردة واحدة، وأَبْقت على المفردة الأولى “عَلى” بينما لم تَأخذ من المفردة الثّانية “أَيّ” سِوى حَرف الهمزة مخفّفًا، ومن المفردة الثّالثة “شَيْء” سوى حرف الشّين.

والأمر نفسه تقريبًا في كلمة “بْلاَشْ” التي ” إذا فكّكناها إلى مكوّناتها الأصليّة تصبح “بِلاَ أَيِّ شَيْءٍ” أي مجانًا. فهي إذن مكونة في الأصل من ثلاثة مُفردات تم دمجها معا لتتحوّل إلى مُفردة واحدة. وكذلك في مثال “مَا ثَمّاشْ” فهذه العبارة التي تعني: غَير مَوجُود مكوّنة في الأصل من أربعة عناصر هي على النّحو التّالي: مَا ثَمّةَ أيّ شَيْءٌ، ثمّ اُختُصِرت إلى مفردة وَاحدة لتصبح ” “مَا ثَمّاشْ” التي نستعملها اليوم في عاميتنا التّونسية.

وأما بالنّسبة إلى بعض التّراكيب التي تُفيد الفِعل والحَركة فنَحن كذلك نَستعملها بكثرة في عامّيتنا بيد أنّ القليل منا فكّر في طبيعة هذه الكَلمات، وكيف تكوّنت ومن أين جَاءت. ويَحسنُ بنا أن نُورد بعض الأمثلة في هذا السّياق.  فالعبارة: “مَا سْمَعْتشْ” الّتي تُفيد مَعنى نفي السّماع متكونة في الأصل من أكثر من مفردة وقد كانت في أصلها الأول: مَا سَمِعتُ أَيّ شَيءٍ، ثم تمّ دمجُ هذه المفردات الأربع في كَلمة واحدة لتُصبح “مَا سْمَعْتشْ” التي نَستَخدمها في عامّيتنا التونسيّة. ويُمكن أن نَقيس على هذا أغلب ما يَتعلّق بأفعال النّفي مثل “مَا رِيتَشْ” و”ما يَهمّشْ” و”مَا عَمَلْتِشْ”…إلخ.

هذا جَانب فقط من جوانب اِرتباط العامّية التّونسيّة بالعربية الفُصحى، وله أمثلة كثيرة في عاميّتنا. وهذا البَحث يقودنا إلى بحث أعمق، وهو كيف تحوّلت هذه التراكيب مع الزّمن، ومتى تم الانتقال من الاستعمال الفَصيح لهذه التّراكيب إلى الاستعمال العامي؟ وما هي الآليات اللّسانية واللّغوية التي تحكّمت في عمليّة الانتقال هذه؟

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0
Visit Us
Follow Me
Tweet