رقصٌ (قصة)

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلم: ريم محيضي

لم ألمسْ دَفترِي منذُ أكثر من أُسبوع، ها هُو اليوم يَهُشُّنِي كقطة تُعاتب مالكتها لتركها وحيدةً في ليلةٍ باردةٍ وتمسح عليها بفِرائها، أمّا ذيلها فيتذلّل نافيًا دفء فراشها دونها. كَعادتي أحبّ الجُلوس قرب النّافذة لأُسابق الأشجَار والوديان وأرقُب رُعاة الأغنام والأبقار، ممدّد هذا على زمُرّد هانئ البال، هكذا تخبرني سرائره، فالرّضا يرتسمُ على جَسده المنهك، يُلاعب عصاه كقائدِ أوركسترا وأغنامه جوقة تُجَمّلُ الصّورة… ومن تُجالس بقراتها، تتأمل على مهل المارّين على عجلٍ ولسان حالها يتساءل: ماذا لو تًبادلت الأدوار مع سيّدة من بين تلك المارّات الجالسات قُرب أزواجهنّ في سيّارات فارهةٍ وتزدرين النّظر للأزهار البرّية، والحال أنّهنّ يضعنها مُستحضراتٍ لوجُوههنّ البَاردة كوجه المدينة، بِسُمْكِ الطّين الذي تعجنه هي أواني تقليديّةً، وعطور باهظة تفوح من الجانِبين تَفشل في طردِ رَوائح الخِيانات والكذبات وانعدامِ الرّضا.

تجولُ بنظرها وتتأمّل من يُبادلها من بعيد دفء ابتسامته رغم فقده سِنًّا ونابين، قلبه لؤلؤ وجوهر وهو يُقَلِّبُ الأرض كي ترتاح أطرافها لتجود عليه بأطيابها، في مطبخهما البَسيط، تَفوح رائحة قَناعة رَغِيفٍ عجنتهُ برضًا بحلوّه و مُرِّه بيديها الخَشنتين اللّتين تَقتلعَان يوميًّا أزهارًا وأعشابًا برّيةً لتسمن بقراتِها العَزيزات.

أكاد أشتم روائح الحُوذان والأقحوان وشقائق النُّعمان… أغمضتُ عيناي لِبضع ثوانٍ، وها هناك استلقيتُ بجانبها لأنعم بهدوء نغماتِها، وأنا أفتحهما على جبل متعال تَراءى لي كفنجان قهوةٍ ساخنٍ، فالضّباب ينقشعُ من حوله شيئًا فشيئًا ويندمجُ مع سحابةٍ كقطعة “مادلين” يغمسها فيه عفريت عملاق.

لقد حان وقت استراحة القهوة والسّيجارة… دفء يتسرّب ليُشعل فتيل جدالٍ ذكوريّ عقيمٍ أو يكاد، فبالنسبة للأوّل لذّة القهوة تكمُن في الرّشفة الأخيرة، ويتمسك الآخر بلذّة السّيجارة التي تكمن في الرّشفة الأولى منها، وهما يغفلان أو يتناسيان بأن لذّة القَهوة تكمُن في مُجالسَتها ومُغازلةِ غُموضها واستجدائِها لكَشف دقّة تَفاصيلها، أمّا لذّة السّيجارة فتكمنُ في جمَال أنامل من يُمسكها وحنوّ الشّفاه التي تقتلها وهي بها مقتولة.

في تمام السّاعة الثامنة صباحًا ودّع الجميع سيّاراتِهم في موقف بلديّة الهناء، واستقلوا حافلةً شقراء ذات عيون زرقاء بعد أن تبادلوا التّحيّات والقبلات. كان يومًا باردًا أدفأتهُ صُحبة الضّحكات والأغنيات والرّقصات. سنوات كثيرة ارتسمت على وَجهه، كان يَرقصُ بمرحٍ على نغمات مختلفةٍ ويتوعّد منظوريه، من لا يرقص فلينسَ التّرقيات.

يلوح بوشاحه الملوّن غبطةً، فقد تخلّى يومها عن بدلته وربطة العُنق، ونزَع عنه قُيود سلطته وثِقل التزاماتِه الاجتماعِيّة والمهنيّة و”بريستيج” كرسيّه العَريض. كان يرتدي ألوانًا مرحةً كرقصه؛ برتقاليّا بدرجة لذيذةٍ وأزرق سماويّا هادئًا وأنيقًا، ووشاحًا متسامح احتضن تلك الألوان وغيرها، أمّا زوجته فكانت تكتفي بتَشجيعه والتّصفيق له. إنّ أكثر ما أثار اهتمامي ذلك اليَوم كان صاحب اللّحية الخَفيفةِ، فقد رقص بتفانٍ كبيرٍ طوال ساعات الرّحلة كما السّهرة. مهما أمعنت النّظر إليه لم أكن أتقبّلُ أنّه كان مجرّد رقصٍ للتّرويح عن النّفس والتخلّص من الضّغوطات المهنيّة والنّفسية اليوميّة، فملامحه وهو يرقصُ لم تكن توحي أبدًا بالمرحِ، فقد كان يرقصُ كمن يقتلُ شيئًا فيه وبغُلُوّ كبير، فكان يضغط بقوّة على ساقيه ويلوح بيديه كمن يُريد أن يمحًو شيئَا ما وبأقصى سرعةٍ ليتوقّف الزّمن ويعيده إلى الوراء.

شهدت حلبة الرّقص العشرات والعشرات، ولكنّ رقصات صاحب اللّحية الخَفيفةِ لم يكن لها على غَرابتها شبيه. وبما أنّني كنت الغريبة بينهم، إذ كانوا إداريّين فلم أكن على علمٍ بسبب غرابة تفاني ذلك الرّجل في الرّقص. ففي اليوم الموالى عرفتُ بأنّه في غضون ثلاثة أشهر كان قد فقد أمَّه وأخاه وحفيدَه الأوّل لابنته المغتربة بأستراليا. لقد كان أمامه خيَارَان إمّا الضّحك أو الجُنون (…) ولكنّه اختار الإمكانيّة الثّالثة ؛ أن يرقص.

قصيرةُ القامة ممتلئة الجِسم وجهُها وجه لبؤة كانت قَد اختبرَت مَعارك الحياة المُرَّةِ، ترمّلت في سن مبكّرةٍ وتولّت تربية ابنها الوَحيد، ولكنّها ظلّت مُتمسّكةً بأمَلها. ألقت على مَسامعنا قصيدةً بصوتها المخمليّ الهَادئ الحَنون. مليحة، لها دِيوان شعرٍ أو اثنين، لا أذكرُ ورغم كثرة التزاماتِها لا تفلت الملتقيَات الثّقافية والأمسيّات الأدبيّة. غنّت، رَقصتْ، زَغردتْ كفراشة تَختالُ بين الحُضور الاسطواني. زهرةٌ يانعةٌ رغم جرح الاختبارات وخُدوش السّنوات، ما أجملَ نَغماتها المخمَليّة. سألتني أختي وصديقتُها ألم تنتبهي لطويلة القَامة مثاليّة الجِسم إنّ شَعرها مُستعار؟ لا لم أنتَبه.

هي عَادتي لا أُركّز على المظهر الخارجيّ للأشخاص، ولا أهتمّ كثيرًا. إنّ كل ما استرعى اهتمامِي وقتها تلك الطّيبة المُرتسِمَة على نور قَلبها، وذلك القَدر من الإصرار على الغِناء لفيروز. رغم النّشاز المتواصل ظلّت تُغنّي وتُغني لوقت طويلٍ وكأنّها تُلقي على المصدح بثقل ما تَكتُمه، فلم أنتبه أبدًا لشَعرِها المُستعَار إلى أن أَخبرتْني صَديقةٌ بكونها تُصارع مرضًا خبيثًا، ولا أحد من الحَاضرين يَعلم بِجهادِها وتأرجُحِها بين الألم والأمل.

تثاقلت خطواتي وأنا أستَمع لقصّتها، وتلتفت هي لي مبتسمةً فأبتسمُ حياءً من عظمة خطواتها، لم ترقص ولكنّها غَنّت بتفانٍ راقص “البوسعديّة” فَطبعَ صوتُها إيقاعًا للرّحلة، كان الكلّ بداخله طيرٌ يَنزف في أماكن مُتباينةٍ وبدرجات مُتفاوتةٍ، ولكنّ الكلّ اِختار أن يَرقُص “في هذا الزّمن البَاهر” …

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0
Visit Us
Follow Me
Tweet