رشفةٌ بحجم المأساة

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلم: مهاب لحبيري

لم أجد طريقةً مثلى لإخباره الحقيقة، لا أتذكّر أنّني عشت سابقًا الموقف نفسَه الذي جعلني أكتشف المعنى الحقيقي للحرج. لم أجد شجاعةً كافيةً أخوض بها معركة البَوح. اِرتجفت أوصالي دون ضوابط إيقاعيّة حين وقعت عيناي على وجهه الشّاحب وعينيه السّاهمتين kوهو يرتشفُ من قهوته صامتًا. كان صمتًا موحشًا زاد من صعوبة المهمّة. اِستبدّ بي الحزنُ من كلّ جانبٍ و رقّ قلبي لحاله. استجمعتُ من داخلِي كلّ ما أملك من قسوةٍ لأعلمه. وليحدُث ما يحدث، فهو سيعلم آجلاً أو عاجلاً:

  • هل تعلمُ أنّ…؟

فجأةً توقّفت عن الكلام و كأنّني مصباح قطعوا عنه الكهرباء في ليلةٍ اشتدّت عاصفتُها. خانني لسانِي السّليط في العادة و تسمّر مكانه. أظنّه رقّ لحالِه إن نزل عليه الخبرُ فأضحى صخرةً يصعبُ زحزحتها. نظر إليّ واجمًا حين انقطعت عنّي الطّاقة التي تزوّدني بالكلام، و كأنّ في نظراته إلحاحًا بأن أواصل ما بدأتُه، و كأنّه أحسّ أنّ الأمر جلل…

تعمّدت سَحب هاتفي من جيبي موهمًا إياه بأنّي بصدد تلقّي مكالمةٍ لا تحتمل التأجيل. تصنّعتُ حركة إلصاقه أذني مستنبطًا بكلّ حرفيّة حوارًا وهميًّا. في الآن ذاته كنتُ أفكّر في مخرج من هذا المأزق الذي لا يُريد أن يتركني أنعم ببداية يومٍ رائقٍ. عيناه التي ترمُقني تُطيل حديثي مع هاتف أخرس وتزيد توتّري داخل جسدٍ مرتجفٍ…

أين أنت أيتّها الشّجاعة؟ لماذا غبتِ عنّي الآن ؟خوضي معي هذه الحرب ثمّ اِرتحلي إلى التّاريخ النّاصع من جديدٍ. أين أنت أيّها القلب؟ لماذا آلمت صَدري بخفقانِك المدوّي؟ كن قاسيًا في مثل هذه اللّحظات ثمّ عد إلى طِيبتك كما عهدوك. كن رفيقًا بي أيّها اللّسان المتحجّر لأنطقَ وليجفّ العرق البارد من جبيني ولتسترخي أصابعي الخَانقة عروة الفنجان…

كنت ككلّ صباحٍ لا أعمل فيه أجالسُ قهوتي السّمراء وجريدتي العتيقة. يتقلّب بصري بين الكلمات والصّفحاتِ والرّسومات التي تمنّ بها عليّ النافذة. لم أعر اهتمامًا لمعزوفات الضّجيج حولي، و لا لرقصات الأدخنةِ على مرأى نظري. فقط كنتُ أطربُ لحفيف الورقِ حين يُسافر من ضفّة إلى أخرى. في لحظةٍ سرح فيها العقلُ و تركّز فيها النّظر على باب الدّخول البلّوريّ رأيتُه يخترق المقهى وأدخنته بجسدِه النّحيل. جال ببصرِه يمنةً و يسرةً حتّى وجدني، وأمضى على وثيقة الشّريك الثّالث للجلسة بعد تحيّةٍ قصيرةٍ وأسئلةٍ برُوتوكوليّة عن الحال والعائلة وعُنوان الجَريدة التي كُنت بصدد مُطالعَتها. حينها ألقيتُ نظرةً سريعةً على جسده جعلتني أكتشفُ مأساتَه، وبدأت المفاوضات الشّاقة داخلي لإعلامه…

مسرحيّة المكالمة ستفضَحني إن طال الأمرُ أكثر، كان بصدد وضع السّكر في قهوتِه وكنتُ بصدد إعادة المحاولة من جديد.

– صدِيقي العزيز لا، أعلمُ من أين أبدأ. الحقيقة أنّ….

اِستسمحني لحظةً قبل أن أواصل بأن يأتي بقطعة مُرطبات من المحلّ المجاور يُرافق بها رشفَاته… لا ليس الآن أرجُوك. الكلمات التي أذعنت لي ربّما ستعُود إلى تعنّتها بعد عودته. لا تجلسِي أيّتها الحقيقة. قومي ببعض الإحماءاتِ الرّياضية لتُحافظي على لياقتِك. لا ترتهني للخُمول بعد كلّ المجهودات التي قمت بها من أجل تحضيركِ لهذه المباراة الصّعبة.

عاد سريعًا و كأنّه يحرمُني وقتًا أطول للتّفكير:

  • أكمِل ما كنتَ بصدد الإفصاح به.

إنّها الورطة في أجمل حلّتها. تأنّقت و تزينت لتغيظني. أنا أريد أن أبُوح، و هو ينتظر بما سأبوح، و الورطةُ تزداد إثارةً كلّما اقتربت منّي:

-أين وصلنا؟ آه تذكّرت. هل تعلم أنّني حين رأيتك داخلاً رأيت أمرًا ساءني أن أُخبرك به خشيةً على مشاعرك…

اِزداد انتباهه و أظنّ أنّ دقات قلبه ازدادت داخله و ارتَعش بدنُه، وذهلت عيناه:
-هيّا انطق أرجوك. ماذا هُناك؟

لم يعد هناك مهرب و لو بحجم الإبرة يجعلُني أنجو من هذه المواجهة. رسمت اِبتسامة لأُشعره ببعض الطّمأنينة:

-أيّها الصّديق لا تغضب منّي فيما سأقوله لك. لا أعلم ما تأثير الأمر على مَشاعرك ولكنّني أعرفُ معدَنك في مثل هذه المواقف.

انتفضَ غاضبًا وهمّ بالمغَادرة لولا أن رجوُته كثيرًا بأن يجلس، ووعدتُه بالدّخول مباشرةً في الموضوع دون فهرس ولا تَوطئةٍ:

– هيّا تكلّم فقد بَلغ بِي الغَضبُ أقاصيه.

– طيّب، الحقيقةُ أنّ هناك بقعة زيتٍ على قمِيصك.

 

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0
Visit Us
Follow Me
Tweet