المجتمع التّونسي قبل 100 عام بعيُون مثقّف مصري

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلم: مصطفى الستيتي

stitimustafaster@gmail.com

 

“في بلاد النّاس” أو “رحلة الشّتاء والصّيف”، كتاب ألّفه ضابط بالجيش المصري يُدعى عبد المجيد كامل في وصف البلاد التونسية، والمؤلف صاحب مجلة “الأستاذ” المصرية، والكتاب ألف عام 1331هـ، الموافق لـسنة 1913م. والنّسخة التي رجعنا إليها تمّ العثور عليها في مكتبة أتاتورك بإسطنبول. ورغم صغر حجم الكتاب إلا أنّ المؤلف قدم لنا معلومات مهمّة وطريفة عن تونس في تلك الفترة، أي قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى بعام واحد. ولم يقتصر المؤلف على الحديث عن مدينة تونس العاصمة بل تنقل كذلك إلى مدن أخرى مثل قابس سوسة والمهدية وصفاقس والقيروان وغيرها. وتحدّث المؤلف في كتابه عن تاريخ فتح بلاد تونس مرورا بالاحتلال الإسباني ثم الدخول العثماني ثم الاحتلال الفرنسي، وتحدث عن السّكان والعادات والتقاليد والمرأة والمدارس والجمعيات والشّخصيات التي التقى بها من السّياسيين والمثقفين والتّجار، كما أورد صورا لباي تونس في تلك الفترة وصورا أخرى لشخصيات سياسية وعلمية. وما نريد أن نذكره هنا بتفصيل أكثر هو ما يتعلق بواقع تونس في تلك المرحلة من طبيعة التركيبة السّكانية والعادات والتّقاليد واهتمامات النّاس.

 

سكّان تونس

بعد الحديث عن الموقع الجغرافي للبلاد التونسية والبلدان التي تحدها من شرقها وغربها وجنوبها قال المؤلف “ويبلغ عدد سكان عاصمته (القطر التونسي) 305 ألف نسمة تقريبا، منهم 100 ألف مسلم، و135 ألف فرنساوي، و100 ألف طلياني و70 ألف إسرائيلي، وهؤلاء هم أصحاب أكثر المحلات التجارية، وبيدهم زمام التجارة على وجه العموم لأن أغلبهم كوميسيونجية للمحلات التجارية الأوروبية، وبذا أصبح الوطنيّ لا يمكن أن يتعامل مع أيّ مصنع إلا بواسطتهم”. وهنا يمكن أن نلاحظ الأمور التّالية: أن عدد التّونسيين في العاصمة كان يمثل ثلث عدد السّكان، فهم يعتبرون أقلّية داخل بلدهم، كما نلاحظ سيطرة اليهود على الجانب الاقتصادي في البلاد، بينما يحرم المواطن التونسي ولا يمكنه إجراء أي نشاط تجاري إلا عن طريقهم. وهذه الأعداد الكبيرة من الأجانب كانت مهمّتهما استنزاف خيرات البلاد ومصّ دماء التّونسيين.

 

المرأة التّونسية

رغم مرور أكثر من 30 عاما على احتلال البلاد التونسية من قبل الفرنسيين حتى تاريخ تأليف هذا الكتاب، فإن الثقافة الجديدة التي رافقت الاحتلال الفرنسي لم تتمكن من التأثير على طبيعة سلوك المرأة التونسية وعاداتها في الحياة وفي اللباس. ويتبين مما أورده الكاتب بناء على مار شاهده من ملاحظات في الشارع التونسي أن المرأة التّونسية المسلمة ظلّت متمسكة بالعادات والتّقاليد التّونسية، بينما كانت المرأة اليَهودية أكثر انفتاحًا، ولذلك يمكن رؤيتها وهي ترقص في مناسبات الزواج وغيرها. يقول الكاتب “التونسيون أهل جد وعمل، وهم على جانب عظيم من الوداعة وحسن الخلق، شديدو التمسك بالدين كثيرو المحافظة على العرض حتى أنك إذا رأيت نساهم في الطريق ظننتهن أشباحا متحركة حيث لا يظهر منهن شيء على الإطلاق. ولقد عجبت كيف ينظرن الطريق”.

 

ويضيف الكاتب “والنساء عندهم لا يخرجن إلى الأسواق إلا نادرا، وأكثرهن من العجائز، أما البيوت فإنك لا تكاد تسمع فيها همسا كأنّما هي خلو من السيدات”. أما الرّقص والغناء وما شابه ذلك فتشتهر به النّساء الإسرائيليات وليس بينهن مسلمة واحدة على الإطلاق حسب قوله، ثمّ يعلق الكاتب قائلاً “وهذه لعمر الحقّ ميزة تمتاز بها تونس عن كثير من البلاد الشّرقية”. وربما كان الكاتب يلمّح هنا إلى بلاده مصر التي كانت توجد فيها مظاهر انفتاح أكبر بين النّساء المسلمات في تلك الفترة، والأمر نفسه في كل من الشام وبيروت بسبب كثرة النّساء المسيحيات في هذه المجتمعات وسريان عاداتهن بين النّساء المسلمات.

 

ولا حاجة بنا أن نلاحظ هنا الاختلاف الكبير بين ما كانت عليه المرأة التونسية في تلك المرحلة، وما أصبحت عليه اليوم. وليس من شك في أنّ هذا التغيير حصل بعد خروج المرأة للتعلّم والعمل بعد فترة الاستقلال، وتراجع الاهتمام بالجوانب القيميّة في المجتمع التّونسي بسبب فقدان المؤسسات الدّينية وعلى رأسها جامع الزيتونة لدورها في الحفاظ على القيم الاجتماعية والأخلاقيّة للإنسان التونسي عموما.

 

لباس التّونسيين

يلبس بعض التّونسيين، وخصوصا منهم موظفو الحكومة الملابس الإفرنجية والطرابيش المغربية ذوات الأزرار الطويلة، وهي الرّسمية عندهم. وقد يلبس بعضهم، وهم قليلون الطرابيش العثمانية، وقد لاحظ ذلك المؤلف عند “السّيد محمد البشير صفر والسّيد حسن حسني عبد الوهاب والسّيد علي عبد الوهاب”. ويلبس البعض الآخر الملابس العربية القصيرة ومن فوقها برنس أو عباءة مسدودة من الأمام، كما يلبس بعضهم اللفة أي العمامة، وهي من النوع المسمى غباني وتسمى عندهم “الكشطة”، ويلبس البعض الآخر الطرابيش العادية، أما العمامة البيضاء فهي شعار الطلبة خاصة.

 

وفي الطريق العام تلبس النّساء النقابٌ، وهو بُرقع عريض يغطي الرأس إلى القدم، ثم إزار كثيف يستر جميع الجِسم. أمّا اليهوديات فيلبسن السّراويل الواسعة وفوقها عتري قصير ثم يغطين رؤوسهن بمنديل أكثر ما يكون من الحرير الأبيض. ومنهن من يلبسن الزّي الأوروبّي، وكلّهن يبرُزن حاسرات الوُجوه.ويلبس رجالهن السراويل والدامير والشاشية، إلا أن سراويلهم قصيرة تكاد لا تتجاوز الركب، ومنهم من يلبس الملابس الإفرنجية.

 

عادات التّونسيّين في الأفراح

يتطرق الكاتب إلى عادات التّونسيين في الأفراح والأتراح كذلك، ويلاحظ أنّ العقد يعقد في إحدى المساجد ثم توزّع الحلوى على المدعوّين. وفي ليلة العرس تذهب عائلة العريس بعربات مخصوصة إلى دار العرُوس فيحضرها وبعض قريباتها إلى دار الزّوج حيث يكون المغنيات، أو المغنّين من اليهود العميان. أما الرّجال فلا يوجدون حيث توجد النّساء، بل يعدّ لهم منزل مخصوص يكون فيه مثل ذلك أيضا. وفي اليوم الثّالث يقام احتفال خاصّ لا يحضره إلا أقارب الزّوجين. أمّا المهر في تونس فيدفع بأكمله، وقد يكون في الغالب نقدًا، أو تكلف الزّوجة بإحضار بعض الأثاث والمفروشات. ولأهالي الرّيف عادة جميلة، وهي أنه إذا تزوج أحدهم قدّم له كلّ رجل من أهالي بلدته لبنةً (طُوبة) واحدة وريالا واحدًا، وذلك ليبني له بيتا يسكن به هو وزوجته، ويبقى ما أُعطي له دينًا عليه يقوم بوفائه لأصحابه كلما تزوج منهم واحد.

 

عادات التونسيّين في المآتم

يتحدث الكاتب كذلك عن عادات التّونسيين في المآتم والأحزان، فيذكر أنّه إذا توفي أحدهم تُرفع أثاثات المنزل وأدوات الزّينة. ثم يوضع الميت في مكان خاص ويُتلى عليه القرآن الكريم. حتّى إذا ما انتهوا من غسله حملوه إلى حيث يُصلون عليه الجنازة. وقد يتقدّم النّعشَ القارئون، ويتبعه المعزّون فأقارب الفقيد كما في مصر. وبعد الدّفن، يأخذ الكلّ بخاطر أقارب المتوفى ثم ينصرفون. وفي اليوم الثاني تقام معزًّى يقال لها “الفرق الأول” فيحضرها من لم يكن حضر الجنازة ، وفي اليوم الرّابع تذهب النساء إلى الجبانة (المقبرة)، وفي السّادس تقام معزًّى أخرى يُقال لها الفرق الثاني، ويحضرها في الغالب أصدقاء آل الفقيد. و”في السّابع تذهب النّساء إلى الجبانة للمرة الثالثة، وكذلك في اليوم الخامس عشر وفي الأربعين. ثم يُرفع الحداد إذا ما مضى على الوفاة حول كامل”. واليوم تغيّر شيء كثير من هذه العاَدات، وممّا لم ين موجودًا في الماضي الولائم التي أصبحت تُقام عندما يُتوفّى أحدهم. فأصبح لزاما على أهل الفقيد أن يذبحوا الذبائح ويطبخوا الطّعام للمعزّين. ولا يجد المعزون حرجًا في الأكل والشّرب.

 

الحالة المعيشية للتّونسيّين

كانت حالة التونسيين المعيشية أحسن بكثير من حالة إخوانهم الجزائريين حسب ما يذكر الكاتب عبد المجيد كامل، ويدل على ذلك كثرة جمعياتهم وشركاتهم ومدارسهم ومنتدياتهم وجرائدهم وغير ذلك مما لا أثر له في بلاد الجزائر. ويوجد من بين التونسيين كثير من موظفي الحكومة وكبار رجالها، وكذلك منهم الطبيب والمحامي والتاجر والصانع وغيرهم. ويرجع الكاتب هذا التطور في النشاط الاجتماعي والجمعياتي إلى وجود نخبة من “الرجال المخلصين الذين يتلهفون غيرةً على الوطن ويضحّون في سبيل خدمته بالنّفس والنفيس مع التبصر والحكمة”.

 

ولا ينفي الكاتب وجود بعض الفاسدين والمارقين، وهؤلاء، كما يقول لا يمكن أن تخلو منهم أمة في الوجود ولو كانت في مقدمة الأمم رقيا وأعرقها مدنية. ويذكر الكاتب أنه أثناء وجوده في تونس قابل كثيرا من كبراء البلاد ووجهائها كما اجتمع بكثير من أدبائها وشعرائها، ومن بين هؤلاء الشّاعر الشهير الشاذلي خزنه دار والأستاذ المؤرخ حسن حسني عبد الوهاب والصادق الزمرلي ورشيد بن مصطفى وغيرهم.

 

ويُبدي المؤلف إعجابه الشّديد بتونس وبالتّونسيين في قوله “وبالجملة فإنّ ارتياحي من الأمّة التونسية عظيم جدّا، وإعجابي بأخلاق أبنائها وآدابهم يفوق حد الإعجاب، ويعلم الله أنّني لو لم أكن مصريّا لتمنّيت أن أكون تونسيًّا”.

 

والجدير بالذكر أنّ الصّحف التّونسية الصّادرة في تلك الفترة احتفت بهذا الضّيف المصريّ المثقف وكتبت ترحيبًا به. وهذا الكتاب لصاحبه عبد المجيد كامل جديرٌ بالاهتمام به وإعادة نشره لأنه يمثل وثيقة مهمّة ونادرة عن تونس في بداية القرن العشرين، ويقدم صُورة عن الحياة الاجتماعية والسّياسية والاقتصادية يحتاجها المؤرّخون في قراءاتهم للواقع التونسي في تلك المرحلة.

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0
Visit Us
Follow Me
Tweet