طريقُ الموتِ إلى المَعهد

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلم: نجاة فقيري

 

تنطلقُ أفواج التّلاميذ مع أولى خيوط الفَجر إلى السّيارتين المُرهقتين المُحمّلتين بآلاف الآمال والأحلام، سيّارة ببابٍ واحدٍ وصندوقٍ خلفيّ مكشوف. يتراصّ التّلاميذ في الصّندوق الخلفيّ يلفَحهُم البرد والغُبار يشوّه إشراقة وُجوههم وبَساطة ثيابهم. تنطلقُ السّيارة في طريق وعرٍ كثرت حفره وشقّت سُيول المطر وديانًا داخله وكشفت حجارته، تسير بصعوبةٍ بين الحُفر وتكاد تَنقلب في كلّ عقبةٍ والصّغار صَامتين شاردِين مُستسلمِين لخضّات السّيارة التي كانت تحدث أحيانًا كدماتٍ صغيرةً في أجسادهم الضّعيفة وشروخًا كبيرةً في آمالهم.

 

تترنّح السّيارة وفي إحدى المرتفعاتِ الضّيقةِ، يحبس الصّغار أنفاسهم ويتصبّب العرق على جبين السّائق ويُسمع شهيقُه وزفيرُه ويشتدّ شخير سيارته. تتوقّف الحياة للحظة ثمّ يجتازون المرتفع المُميت ويتنفّسون الصّعداء، ولكنهم عائدون وذاهبون وآيبون فازدادي حدّةً فإنّ صبرهم أشدّ.

 

يتعرّج الطّريقُ، يتّسع تارةً ويضيق تارةً أخرى والسّيول والحُفر تشقّه، يدخُلون الغابة فيشتدّ البردُ ويختفي الطّريق بين الوِديان والأوحالِ ويسدل الضّباب ستارًا خفيفًا يلفح وجوههم محدثا شقوقًا على الخُدود والشّفاه.

 

يصلُون إلى معهدهم ويرتمُون في أحضان أقسامِهم، يغذّون أحلامهم ويتمسّكون بها ويسقونها بالصّبر والطّموح وكلّ أملهم أن لا يقطعوا الطّريق الوعر ثانِيةً.

 

يمُرّ الأسبوع متثاقلاً مليئًا بالبَرد والوحدة وكثيرًا من الصّبر. تتساقط الثّلوج وترتَدي الجبالُ حلّتها البَيضاء، تتعطّل الدّرُوس وتتوقّف الحَياة في المعهد، ويُحبس التّلاميذ داخل المَبيت يَقطع البَرد أوصَالهُم والثّياب الخَفيفة والأغطِية الصّوفيّة لا تمنعُ عنهم شدّة البرد. لا تَدفِئة لا حساءَ دافِئًا يقِي أجسَادَهم الضّعيفةَ الصّغيرة اليَانعة لَسعةَ البَرد القَارس. يأتي أولياؤُهم سيرًا على الأقدَام لاصطِحابِ الصّغار إلى مَنَازلهم والثّلج يُغطي المَكان ويتجاوَز الرّكب في ارتفاعه.

 

رِحلة العَودة في أحضَان الثّلوج، ستستمرّ لِساعاتٍ وستكون شاقّةً ومخيفَةً. اصطفّ التّلاميذُ واَنقسم أولياؤُهم إلى مجموعاتٍ، مجموعةٍ في الأمام ومجموعةٍ في الوسَط أمّا الباقُون فيُراقبون الصّغار من الخَلف.

 

تَقدّم الجميع بخطًى متثاقلةً فحين تغُوص الأقدام في الثّلج يصعبُ رفعُها، بعض التّلاميذ بل وأكثرهم كانُوا يرتدُون أحذيةً أشبه بالصّيفيّة منها بالشّتوية، والبعض الآخرُ يرتدي أحذيةً بلاستكيّة باليةً.

 

تجمّدت أرجُلهم الصّغيرةُ، احمرّت وُجوههم وتورّمَت أيادِيهم. كانت الرّحلة متعبَةً وشاقّة، فالثّلج يُغطّي الحفر والأحجَارَ فتراهُم تارةً يسقط أحدُهُم وطورًا يغرق آخر فتتبلّل ملابسُه وأحيانًا أُخرى يتعثّر آخر فيُصاب ويتألّم ويبكِي في صَمتٍ.

 

كان الطّريقُ طويلاً وصعبًا، مرّت ساعةٌ وساعتان والطّريق يمتدّ ويمتدّ والأجسَادُ الصّغيرة هدّها الإعياءُ والبردُ. شَارفوا على الوادي الكبير الذي يشقّ الطّريق شقًّا ومياه تهدر بقوّة مُخيفةٍ.

 

يتردّد الآباءُ ثم يُكوّنُون حاجزًا فوق الصّخُور البَارزة داخل الوادي ويمُرّرون الصِّغار واحدًا واحدًا بِحذرٍ بالغٍ وخوفٍ كبيرٍ يُخفونَه عن الصّغار. جاء دور محمّد، طفل صغير يتيم الأبِ، ضعيف الجَسد قويّ الذّاكرة مُجتهد، مَرّروه بينهم في خِفةٍ لكن فجأة انزلَق الصّبيّ الصّغير وسحَبته المِياه بعيدًا بعيدًا…

 

كان الوادي يهدرُ هديرًا قويًّا مخيفًا، وماؤه يلطمُ الصّخور بعنفٍ وجنونٍ. دبّ هلعٌ كبيرٌ بين الرّجال والتّلاميذ الصّغار وكثرَ العويلُ والصّياح، ومحمد يتخبّط بين الصّخور ويُحاول جاهدًا مقاومة السّيل بجَسدِه الضّعيف النّحيلِ، والرّجالُ يَسْعون خلفَه على أطراف الوَادي وفوق الصّخُور البَارزة دَاخله. لكنّ اليد الصّغيرَة خانتهَا الصّخور المَلساء، واستَسلَمت أنفاسُ الصّغيرِ للسّيلِ.

 

نظرَ إلى السّماء نظرةً أخيرةً حزينةً وصاح صيحةً ارتجّ لها المكان وانخَلعَت لها قلوبُ الرّجال قبل الصّغار وقال بصوت متقطّع: “سَامحني يَا والِدِي، فهذا عدل الحَياة، تَركتني رضيعًا فصَارَعت أمّي الظرُوف المَريرة لتَرعانِي وتعلّمني، وَحِين اشتَدَّ عُودي وأشرَق الأملُ في أفقي المُظلِم خَانتنِي الحَياة، وا أمّاه، وَا أمّاه، وَا أمّاه”. واختَفَى الصّوت الحَزينُ والجَسَد الصّغيرُ.

 

فجأةً أظلم المَكان واكفهَرّت السّماء وهاجَت ريحٌ شديدةٌ تهزّ الأشجار وتَعصف بالقَرية عصفًا. ظلّ الرّجال والصّغارُ للحظاتٍ يرقُبون الوَادي بألمٍ علّه يلفظ الجَسد الصّغير. اِشتدّت العاصِفة وفاض وابلٌ من البرَد يضربُ الأرض بشدّةٍ حزنًا على الصّغير. فانَطلق الرّجال والتّلاميذ مُسرِعين إلى مَنازلِهم.

 

اِعترضَت أمّ مُحمد طَريقَهم تَستقبل اِبنها وبِيدها لِحافٌ صوفيّ قديمٌ لتلفّ به صَغيرَها، امرأةٌ نحيفةٌ في عقدها الثّالث تُخفي عيناهَا حزنًا كبيرًا وألمًا كثيرًا، ملابِسُها رثّةٌ، وقَدَماها شِبه حَافيتَين فِي حذاءٍ بلاستِيكيّ كَثرت ثُقبه.

 

رَاحت تتفقّد الصّغار بلهفَةٍ باحثةً عن فلذة كَبدها لكنّها لم تجِده، فسألت الرّجال بحُرقة: “أين مُحمّد؟ أين فلذَة كَبدي؟ صمتُوا جميعًا وأحنوا رُؤوسهم خجلاً وألمًا. صاحَ صديقُ ابنها وهو يَشهقُ : ” لقَد ابتلَع الوَادي مُحمّد”.

 

صُعقت المسكينَة من هول الخَبر، ولم تصدّق كلام الصّغِير، فراحَت تسألُ الرّجال وتَستعطِفهم أن يُكذّبوا ما قالَه الصّبيّ، لكنّ عيُونهم الحَزينة المُتحسّرة المُشفقة أخبَرَتها. فصرخَت وكأنّها ذَبيحة تتلوّى من الألَم، ثُمّ هرعت راكضةً نحو الوَادي تتوسّل إليه وتفتّشه بعَينين دَامِعتينِ، ورمت بنفسها نحو السّيل فهبّ الرّجال خلفَها ولِحسن الحظّ تمكّنوا من اللّحاق بهَا قبل أن يَجرِفها السّيل..

 

خَرجَت المِسكينة تَنتَفض وتَرتَعش، تبكي تارةً وتصيحُ أخرَى حتّى أُغمي عَليها، فحَملُوها إلى منزلها…مرّت العَاصفة وذابَ الثّلج وخرَجت أفواج التّلاميذ قبل خُيوط الفَجر إلى السّيارتَين المُرهقتين وتراصّوا داخل الصّندوق الخلفيّ، وانطلقُوا من جَديد فِي طريق الموت إلى المَعهد. مرّوا بالوَادي فرأوا أمّ محمد على ضفّته شاردةً حزينةً دامعة العُيون رثّة الثّياب نحيفة كالشّبح تَنتظر جُثّة ابنِها التي لم يَلفظها الوَادي بعدُ… تألّمُوا، دَمعت عُيونهم الصّغيرة، فرُبما غدًا تقف أمّ أحدهم موقف أمّ محمّد.

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0
Visit Us
Follow Me
Tweet