حراثة الأرض في الأرياف: إعداد الثيران وصناعة المحراث العربي

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلم: بوجمعة الفيالي

 

إنّ فلاّح الرّيف تحديدًا – وهو في خدمة أرضه التي ورثَها عن أجدَادِه، مثلما ورث عنهم حِذق تلك الخدمة – مُلزم باحترام قَواعد لا بدّ من تطبيقها، ألا وهي الحرث في المنحدَرات مع خُطوط العَرض ضدّ خطوط الطّول، وذلك حتّى يمنع اِنجراف طبقة التّربة الخِصبة جرّاء سيلان مياه الأمطار في الحقول المنحدرة. وبتكوينه للأخاديد الأفقيّة التي تتجمّع فيها مياه الأمطار، ترتوي الأرض وتسهل فيها بقيّة الأعمال القادمة كالبذر وإعادة الحَرث.

 

التّمْيِيل والقَلْبَان

لقد تعوّد الفلاح على حرث أرضه مرّتين في الموسم الواحد، فنقول عن الحرثة الأولى إنّ الفلاح “ميّل” الأرض، ونقول عن الثانية إنّه ” قْلَبْ” الأرض، أي أعاد عمليّة الحرث لدفن الحُبوب في التراب. وهكذا تكون هذه العمليّة موحّدة في كلّ الزّراعات الكبرى، سواء في الرّيف بالمحراث العربي والثّيران، أو في السّهول الشّاسعة المحرُوثَة بالجَرّار و”الدّيسكوَات”، والهدف من عمليّة الحرث الأولى هو تهوئة التّربة وإشباعها بتخزين الماء بعد نزول الأمطار وتسهيل عملية البذر.

بعد مدّة وجيزة يبذُر فلاّح الرّيف أرضه المهيّأة ، ويُعيد حرثها لردم البذور، وتسمّى هذه العملية الثّانية بــ: “القَلب أو القَلْبَان” (بتثليث القاف)، بمعنى قلبان التّربة المحروثة على البذور، فيكون الفلاّح “ميّل” الأرض في حرث أوّلي، أي هيّأها لخدمة ثانية، و”قلب” الأرض، أي زَرعها وردم البذور . ولستُ متأكدًا إن كانت هذه العبارات نفسُها متداولة في جميع أرياف الشّمال الغربي التّونسي وسهوله، أم هي مستعملة فقط في جهتنا دون غيرها.

 

 

تربية الثيران وصنع المحراث العربي

  • تربية الثّيران

إذا كان الفَلاحّ في الرّيف مربّيا كذلك للأبقار فهو يعتبر محظوظًا لأنّ ثيرانه سوف يكونون جاهزين تقريبًا، من “المْرَاحْ” يختار ثيران المستقبل من العُجول التي هي بحوزته. يختار أحسن عجلين نشيطين، قويّين، ويأمر بتسريحهما مع أمّهما كي يرضعا ما لذّ لهما من حليب، وبهذه الكيفيّة سوف تشتدّ بنيتهما ويكبُران بسرعة ليصيرا “جَدعَيْن” قويّين، ويتمّ تدريبهما فيما بعد على جرّ المحراث عندما يصبحان “فَرتُولَيْن” مَفتولي العَضلات، ويخشى أيّ كان الاقتراب منهما باستثناء مربّيهما.
و “الفَرْتُولْ” أقوى من “الجْدَعْ ” لأنّه يفوقه سنّا وبنيةً. وفي هذه السنّ بالضبط أي سن قوّة الشباب وجب على الفلاّح أن يفكّر في “استصلاح” ” فَرتُولَيْه” القَويّين، أي تحويلهما إلى ثَورين “راجعين”. و”الفَرْتُول” “الرّاجع” هو الجَاهز للحَرث مثله مثل الثور المسنّ ،المتمكّن من أداء عمله على أحسن وجه.

ويكون الاستصلاح بأن يلتجئ صاحب ” الفَرتُولين إلى شَخصٍ ماهر في العمليات الجراحيّة، ويستعين بأنفار آخرين فتقع عمليّة “الشّقّ” على خِصْيتي” الفَرتُول”، وهي عملية جراحيّة فيها قدر كبير من الألم للحيوان.

ويقع استئصال الخصيتين وكيّ حبلهما المقطوع بواسطة رأس منجل محمّى حتى يصبح أحمر اللّون بأقصى سرعة مُمكنة، ثمّ ” تغريز” الجِلدة الخارجيّة بالسّرعة نفسها، ثمّ إطلاق سراح “الفرتول” فاقدًا لخصيتيه ولذكورته ، وقد أصبح ثورًا بقيّة حياته، لا يصلح إلا للأكل والحرث. وها هو، بعد أسبوع على أقصى تقدير يسترجع عافيته وقواه كاملةً ما عدا جهاز تناسله الذي اِفتقده إلى الأبد. والجَدير بالملاحظة كذلك أنّ هذا ” الفَرتول” إذا كبُر وأطلق عليه اسم “الرّمّول ” فقد نأى بنفسه عن مخاطر تلك العمليّة بالغة الإيلام والخطورة ليبقى فحلاً لبَقراته.

وكان مربّو الأبقار في الجبال يزوّدون فلّاحي الرّيف بــ “الجِدْعَان” ” و”الفرَاتِيلْ” على وجه الإيجار لا البَيع، ويتعاطون مع بعضهم البعض عمليّة تبادل سلعة بسلعة، فهؤلاء يوفّرون لهم الحيوان وأولئك يزوّدونهم بنصيب من الصّابة (قمح وشعير على كلّ رأس).

  • صُنع المحراث العربي

ليس من السّهل صُنع محراث عربي، ولذا يتعيّن على فلاّح الرّيف الالتجاء إلى صاحب الخِبرة في هذا الميدان، وعادة ما يكون عارفًا بنوعيّة الخشب الصّالح لصنع ذلك المحراث بأقصى درجات الحرفية والإتقان. ويختار النجّار أعواده إمّا من خشب الزّيتون أو “القِيقَبْ” أو” البَطّومْ” المعرُوف بخفّته، فخشب الزّان مثلا غير مناسب لصناعة المحراث لأنّه يكون ثقيلا جدّا، ويتسبّب في إنهاك الثّورين والحَرّاث معًا.
ويتكوّن المحراث العربي من:

  • الكِفَّة: وهي خشبةٌ طويلةٌ ومحفورة على مستوى كتفي الثّورين، ومصقولة بدقّة عالية كيلا تؤذيهما عند جرّهما للمحراث. وتكون مثقوبةً في الوسط ليسهل ربطُها به. وبواسطة الكفّة يتمّ جرّ المحراث والقيام بعمليّة الحَرث.
  • المحراث : يتكوّن من مجموعة من القطع وهي: خشبة القاعدة، وهي قطعةٌ قصيرةٌ ومتينة لا تتعدّى المتر، وتثقب من جهة لتثبيت “القَرَّاصْ” (بالقاف المثلثة) وهو المِقوَد الذي يُمسك به الفَلاح. ثم “المَجْبَدْ”، و يبعد تثبيته قليلاً عن ” القرَّاص” متّجها إلى الأمام. وبَعد “المَجْبَد” مُباشرة تثّبت “السِكّة”: وهي قطعة الحَديد التي تشقّ الأرض وتترك الأخاديد وراءَها. وجميع هذه القِطع مشدودة بإحكام في خشبة القَاعدة. وجدير بالذّكر أنّ خشبة “المَجْبَد” تحتوي على أربع أو خمس ثقب للتّصرّف في ربطها بالكفّة حسب الحاجة…

أذكر أنّه في ثمانينات القرن الماضي، حَاول الكثير من فلاحي الأراضي الوَعرة والمنحدرات الحادّة التخلّي عن المحراث العربي واستبداله بالجرار ، لكن ليتهم ما فعلوا، فقد حصلت حوادث مميتة، ومآسي كثيرة راح ضحيتها أرباب عائلات، ومن ذلك الوقت عرفنا أنّ الجرار لا يَصلح للحرث في الأماكن الوعرة والمنحدرات مهما كانت براعة سائقه.

 

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

التعليقات مغلقة.

Visit Us
Follow Me
Tweet