العنايةُ بالحيواناتِ في الأرياف

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلم: بوجمعة الفيالي

ترتكزُ الفلاحة في الرّيف على أهمّ عنصر فيها وهو تربية الحَيوان. فقد كان أجدادنا – ولا يزال أحفادُهم – مُولَعين بتربية حَيواناتهم الأليفة من أبقارٍ وأغنامٍ وماعزٍ ودواجنٍ، وكذلك تربية الخُيول والبِغال والحَمير  لرفع الأثقال وتَذليل الصّعاب في الرّيف. وهم ما فتئوا يُعطون أهمّيّةً قُصوى لهذا الجَانب الاقتصادي ويدفعون به إلى الأمام  دفعًا قويًّا، علما وأنّ الرّيف هو المزوّد الرّئيس لأسواق الدّوابّ في كامل تُراب الجُمهوريّة، وذلك لما تدرّ به تلك الحَيوانات  على أصحابها من ربح وفير، وعلى جميع الأهالي –في الرّيف والحضر – من خير عَميم.

الحيوانات ومرابضها

يعمل أهالي الرّيف خريفًا على توسيع “القُربي” (بتثليث القَاف) الذي غصّ بما فيه، أو تركه على حاله لاستعمال آخر والشّروع في بناء “مْعَمَّرة ” أُخرى واسعة تفي بالحاجة وتسعُ ما يجب إيواؤه شتاءً كالعُجول الصّغار والماعز والخِرفان والجديان (جمع جدي) وقطيع البَقر المسمّى عندهم بـــ : “الصَّرعُوفَة”. وتتكوّن هذه “الصَّرعُوفة” من بقرات حلوب وذكر كبير،أي الفَحل المُسمّى بـــ “الرَّمُّول” ومعه بعض ” الفْرَاتِيل” (جمع فَرتُول” وبعض الجِدْعَان مع بعض الأَرَاخِي (جمع أَرْخَة”.

يأخذُ مُربّي الأبقار ناحية من ساحة  “المْعَمّرَة  الوَاسعة ويقوم ببناء “مْرَاح” لِلبقر فيَشْتري من مصلحة الغَابات كمّيّةً من الدّعامات (بِيكيَات) حسب اِتّساع دائرة “المرَاح” المبرمج بناؤه،وكمّيّة كبيرة من “الخْطَرْ” (جمع خَطْرَة)، ويَبني مْرَاح صَرعُوفة البقر الذي يجب أن يكون قويًّا جدّا، لمقاومة صِراع “الفْرَاتِيلْ” والذي يَحدُث بين الفَينة والأخرى. كما يَبني لقطيع الغَنم المُسمّى في بعض الأوساط بـــ :”الجَلْبَة”  “حُوَّاقة” (بتثليث القاف) بواسطة دعامات صَغيرة تُسمّى “رْكَاكِيز” – (جمع ركّاز) وهو عُود يُثبّت في الأرض بإحكامٍ، وبين الركّاز والآخر حَوالي 50 صم، ثُمّ تَنسجه الحُرّة بـــ : “الزّْرَبْ”، وتكوّن “زْرِيبَة “ضيّقة سَمّيناها ” حواقة وتترك لها بابًا يَدخل ويَخرج منه القَطيع.

كما تَقوم المرأة الفَلاّحة – دَاخل المْعَمّرَة بإحضار ” قْرُوشَة” لِلْمعيز (بالقَاف المثلثة) وبجانبها “قْرِيشَة” وهي تَصغير “قرُوشَة”  مُعَدّة لإيواء الخِرفان والجِديَان . كَما يقوم مربّي الأبقار هذا بتَثبيت حَبلٍ طويل يُوثقه  بــ :” تْوَاقِيد المعمَّرة يَربط فيه العُجول، ويُسمّى هذا الحَبل بـــ : ” الرِّبِقْ” (بتثليث القَاف).

ثم ألخّص فأقول:

* مْرَاح البَقر يكُون خارج المسكن، وهو مصنُوع من بِيكِيَات الزّان القَويّ و”خْطَرْ” الزّان الصّلبة

* حَوَّاقة  الغَنم تكون خارج المسكن، مصنوعة من رْكَاكِيز الأَنْج و الزّْرَبْ من الـبُوحَدَّادْ والرّيحان.

 * ” قْرُوشَة” المعيز والجديان والخِرفان، تكون داخل المَسْكن، ومن الغابة نَفسِها الّتي اُستعملت في صنع “الحَوّاقة”.

* “صَرْعُوفة” البَقر، دَاخلة – خَارجَة  من مَرَاحِها  يَومِيّا حتى تَتعوّد على مَربَضِها .

* “جَلْبة “الغَنم، داخلة – خارجة من حَوَّاقتها حتّى تَستأنس وتَرُوم مَرقدها.

* “حَلاّبة” المعيز، في  قْرُوشَتها دَاخل المعمّرة، وتَأنس لِسماع صياح  جديَانها  بالقُرب منها.

*يمرّ فَصلُ الشّتاء العسير بزَمهريره وباِنكِمَاش أديم الأرض والمرَاعى الجَدباء من شدّة الصّقيع، وبنزول أمطار مَارس تدبّ الحَياةُ، ويخضرّ العودُ وتعشوشب السّفوح والسّهول، وينشر الرّبيع زهورَه وأريجَه في كلّ مكان، وينمُو الزّرع  ويدرّ الضّرع بعطائه الغزير، وتَرقص العُجول والخِرفان بجوار أمّهاتها. وحتّى الكلاب شَبعت وكَرهت المزيد من لعق اللّبن، فها هو الفائض يُسكَب في الشِّعاب.

سنَة الأمطار في الرّيف هي سنة الاخضرار، وسنة الإنتَاجِ الوَفير والخير الكثير وبَحبُوحة العيش لدى فلاّح الرّيف المتشبّث بعمل أجداده، فينزلُ بعُجوله أو خِرفانه وجِديانه  لتَزويد أخِيه في المدينة بلحمٍ طريّ . وعندما تزور سُوق الدّواب – يوم سُوقها – فإنك سوف ترى الخَيرات تتدفّق عليها من الأرياف كالسّيل الجَارف. فسبحان الواهب المعطاء

تنظيف مَرابض الحيوانات والعناية بها

بمجرّد خُروج الحيوانات من مَرابضها  صباحًا تشرعُ صاحبة البيت في تنظيف “قْرُوشَة” المعيز والجديان والخِرفان داخل المعمرة، فتقوم بكنس الفَضلات المعبّر عنها بــ”بعرور” المعيز والغنم، وتكُون المِكنَسة المسمّاة بــ”الفَرَّاحة ” مَصنوعةً محلّيا من أغصان الرّيحَان.

“تفَرّح” المرأة، أي تكنُس ساحة المعمّرة، وتجمع  “بَعْرُور” المعيز والغَنم  وتَرمي به في السّانية بِواسطة “برْويطَة ” ليَكون سَمادًا بيولوجيًّا ممتازًا.   وبَعد تَنظيف ” القَرايش” الدّاخِليّة (جمع قروشة) وكَنس المعمّرة وتَنظيفِها من الدَّاخل تَخرجُ الفلاّحة إلى حَوَّاقَة النّعاج ومْرَاح البَقر لأدَاء المهمّة نفسها، فتجمعُ روث الأبقار المُسَمّى عِندهم بــ”حِنَّة” البَقر، أي فَضلات الأَبقار، وقَد أعطوها هذا الاسم لأنّها رُبّما تُشبِهها في المَنظر ولَيس في الرّائِحة. وتجمعُ الفَلاّحة كمّية كَبيرةً من هذه “الحِنَّة” وتَرمي بها في السّانِيَة لتَسمِيدِها

بعد الكَنس والتّنظيف تَبقى كلّ المآوي سواء كانت قْرَايِشْ أو مْرَاحَاتْ على أحسَن حَالٍ، وتجفّ أرضيّتها وتُصبح كأنّها بُنيت من جَديد. وهكذا تتكرّر تلك العمليّة كُلّ صَباح، وعلى امتداد كَامل أيّام السّنة. إنَّها عبقريّة المرأة الفلاّحة في الرّيف. وقَد تعوّدت على هذه الأشغَال طوال حياتها ولم تَعد مُباليةً بتلك الأتعاب.وفيها ينطبق قول المتنبي:

تَمرّستُ بالآفاتِ حتَّى تَرَكْتُهَا …. تَقُول أَمَاتَ المَوتُ أَمْ ذُعِرَ الذُّعرُ

ترجعُ الحيوانات من المراعي زوالاً فَلا يُسمح لها بالدُّخول إلى مَرابضها، بل تَبقى خَارج السَّاحة في مكانٍ به ظلال وَارفة ويُسمّى هذا  بــ” المْقِيل” (بالقَاف المثلثة)، يقضّي فيه القَطيع قَيلولتهُ بأخذ نَصيب من الرّاحة.

وعند وقتِ العَصر  يهشُّ الرَّاعي بِعصاه على “الشّياه” و”حَلاّبة” المعيز معلمًا إيّاها بأنّ القَيلولية انتهت وحان وقتُ تَسلّق الجَبل والرّعي، فنقول: “شَرَّهْ ” الرّاعي بأغنَامه ومعيزه، تَحرسها مَعه كلابُه.

كيفيّة الحُصول على الحَليب من الحيوانات بالنّسبة إلى النّعاج والعَنزات الحَلوبة هُناك طَريقتان – حسب اِعتقَادي – لحِرمان الجَدي والخَروف من الرّضاعة، حتى تَسمح ربّة البيت بذلك، وهُما: 1- إبعَادُه عن أمّه حتّى تَقوم هي بعمليّة الحَلب أولاً، وما بقي في الضّرع فهو من نصيبه هو.

2- نُفور الرّضيع الاقتراب من ضَرع أمِّه الملطّخ بقِشْرة يَابسة من “حِنَّة” البَقرة التي تَنبعث منها رائحة كَرِيهة تَجعل الجَدي أو الخَرُوف يَبتعدُ عن ضَرع أمّه مُكرهًا. وأحيانًا  أخرى تُنفِّر الفَلاّحة جَديها وخَرُوفها بوضع قَليلٍ من مادّة “الــ مرّوصبر” شَديد المرارة على ضَرع أمّه. وهذه العمليّة الأخِيرة مُضرّة بالصّغير لأنّه يَجد نَفسه مُجبرًا على قطع هذه الرّضاعة المرّة كالحَنظل  بصِفةٍ نِهائيّة.

أمّا حكاية العُجول فطريقة تنفيرها من الرّضاعة لا تخلو من غَرابةٍ، حيث يثبّتُون على مستوى أنف العِجل حلقةَ حديدٍ مستديرةً  مُسلّحة بمَسامير تَجعل البَقرة الأمّ هي التي تمنعُ بشدّة صغيرها من الرَّضاعة.

كان فلاح الرّيف هكذا يَعيش مع حَيواناته تحت سقفٍ واحدٍ، ويَرعاها كما يرعى أولادَه، ويَسعى لتوفير الأعلاف بشتّى أنواعها، فيجمع من صابة  “بلُّوط” الفرنان والزّان بجهتنا ما يكفي حَيواناته وزيادة فترة تساقط الثّلوج. هذا، إلى جانب  “نَادِرْ”  القُرْطَ (بتثليث القاف) الذي حَشّه من سَوانِيه.

أمّا اليَوم فإنّ تربية الماشية لم تعُد بالأمر السّهل، فرغم كثرة الأعلاف وتنوّعها مثل السِلَّة والفصّة والقُصّيبة والنّفلة والقَرْفَالة والبَرسيم والقطانية والخُرطَال والشّعِير،  بالإضافة إلى الرّعاية الصّحّية للقَطيع فإن تربية الحيوانات أصبحت تُكلّف فلاّح الرّيف مَصاريف باهضة تأتي على رِبحِه ورأس مَالِه.

لكنّ أخطر شَيءٍ يُزعج فلاّح الرّيف اليوم هو كَثرة السّرقات واِنتشَارها واِستفحالها في كلّ وَسط، وخَاصّة الوسط الرّيفي الّذي زُرع فيه الرّعب والهَلع من قبل جماعات مُلثّمة  عملها باللّيل، تَسطو على أرزاق النّاس وتَستولي عليها بالقوّة.

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0
Visit Us
Follow Me
Tweet