جريمةُ فكـــر

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

بقلم: هذباء علي الغويلي

كان نائمًا عندما سَمع قرعًا عنيفًا على باب بيتِه، نهضَ فزعًا جزعًا، بَحث عن جوّاله يتثبّتُ من الوقت، إنّها الثالثة صباحًا، هَمهم: خيرًا إن شاء الله، من سيأتي في مثل هذا الوقت المتأخر؟ ثم توجّه نحو البَاب.

من الطّارق؟

اِفتح يا عبد الرّحمن.

من أنت؟

شُرطة.

بسم الله الرّحمن الرّحيم، شُرطة!

فتح الباب وهو يرتَعش من شدّة الخَوف، كادَ يبلّل سِرواله عندما رأى هَيأتهم. دخل خمسة رجالٍ عظام غلاظ بِلباس غير لباس الشّرطة يتقدّمهم رجلٌ طويل القامة أسمر البَشرة حادّ الملامِح، يُصدر أوامره لبقيّة الرّجال.

اِبحثُوا في مَكتبه وفي جميع أركان البَيت عن أيّ كتابٍ أو مجلّة، أو حتّى ورقة مرميّة في القُمامة.

توجّه بقية الرّجال للبَحث وعبد الرّحمن في حيرةٍ من أمره.

سيّدي، معذرة، لكن أنتم لستم من شُرطة المدينة، فأنا أعرفهم جيّدًا؟

نحنُ شرطة الفكر؟

معذرةً، شُرطة ماذا؟

غَضب الرّجل واَبتعد عنه يبحثُ في زوايا الصّالون عن أيّ دليلٍ يُدين عبد الرّحمن.

قلت لكَ شرطة الفكر، ألم تسمع عنها؟

كان سيُخبره أنّه لم يَسمع عن شيء مثل هذا من قبل، وأنّه لم يعرف أنّه أصبح للفِكر شرطة تتبعه وتُحاسبه وتُعاقبه إن استدعى الأمر، لكنّه خشي أن يعتبر صَاحب شرطة الفكر ذلك استنقاصًا من شأنه وشأن شُرطة الفِكر، كما خَشي أن يعتقد أنّه غيرُ مواكب لما يحدُث في البلاد، فقال وهو يَفرك يديه:

كيف لا أسمع عنكم سيدي؟ لقد سَمعت عنكم كلّ خير.

عاد الرّجال بعد أن غابُوا بعض الوقت يَحملون مجلاّتٍ وبعض الكُتب القَديمة والسّيديهات. قال أحدهم وهو يقترب من صاحب شرطة الفكر:

سيّدي، هذا كلّ ما وَجدناه.

ممتاز، تحفّظوا عليها وأحضروا عبد الرّحمن معكم.

صُدم عبد الرّحمن من قول صَاحب شُرطة الفكر، فارتعشت شفتاه وغارت عينَاه.

سيّدي، والله العظيم لم أفعل شيئًا، ولا أعلم حتّى لماذا جئتم.

عندما تذهب مَعنا إلى مركز الشّرطة ستعرفُ ماذا فعلت.

عبد الرّحمن أمين المكتبة العُمومية، قارب الخمسين ولم يتزوّج، معروفٌ بانطوائيّته، قليل الزّيارات لأهله، حتّى أنّه في بعض الأحيان لا يَراهم إلاّ في المناسبات، وتبدُو عليه عَلامات بسَاطة التّفكير والفَهم. وليس له أصدقاء إلاّ حامد مدرّس فلسفة ومحمود ممرّض بمستشفى المدينة.

حُمل عبد الرّحمن إلى مركز شُرطة الفكر، وأدخل إلى غرفة شبه مظلمة وطُلبَ منه الانتظار.

جلس عَبد الرّحمن وهو يَسترجع سجلّ أعماله للأشهر المَاضية. لم يفعل شيئًا غير عاديّ طيلة هذه الأشهر؛ يَستيقظ صباحًا، يتناول فطوره ثم يذهب مشيًا إلى مقرّ عمله، وعندما يَصل يقرأ الجَريدة، وبالتّحديد “حظّك اليوم” وقسم الرّياضة وأسماء الفائزين بورقة اليَانصيب، ثم  ينهَمك في حلّ الكَلمات المُتقاطعة ينتظر من سيأتي ليستأجر كتابًا فيأخذ بطاقته ويسجّل تَاريخ الاستلام وتاريخ التّسليم. ولا ينسى أن يُخبر المستأجر:

إذا تأخّرت عن تاريخ التّسليم لا يحق لك أن تأخذ كتابًا لأسبوعين.

ضرب عبد الرّحمن جبينه بكفّ يده ونَهض من مكانه ثم عضّ على سبّابته. لقد تذكر ماذا طرأ عليه خِلال هذه الفترة، نعم لابدّ أنّه السّبب في قُدومه إلى هنا، ولكنّه لم يكن مذنبًا، هي من نَادت عليه من خلف بَابِها وطلبَت منه الدّخول.

كانَ ذلك في ليلة شِتاء ماطرةٍ انقطع فيها الكهرباء فَخرج من بيته ليُدرك دكّان الحيّ ويَشتَري منه بعض الشّمعات قبل أن يُغلق. وعندما كان في طريقه سَمع صوت أُنثى يُناديه من وراء باب، اِرتعدت فَرائصه واقتَرَب من البَاب .

عبد الرّحمن، هل يمكن أن تشتري لي بعض الشّموع من الدكان؟

حاضِر ، حاضِر أُختي هاجر.

هَاجر أرملة في أواخر الأربَعين من العُمر، ماتَ زوجُها وترك لها فَتاتين تزوّجتَا، وذهبت كلّ واحدة لتَعيش مع زَوجها في مدينة أخرى. اِشترى عبد الرّحمن علبةً من الشّموع وعَاد مُسرعًا فالمطر لم يترك له مكانًا إلاّ وبلّله.

عندما رأته هاجر وهي تفتح له البَاب مُبلّلاً طلبت منه أن يدخُل ويَشرب معها فنجان شاي حتّى يتوقّف المطر عن النّزول، رَفض في البداية لكنّه وافق بعد أن ألحّت عليه.

وبينما هو يفكّر دخل عليه صاحب الشّرطة ومعه أحد الأعوان. أضَاء صاحب الشّرطة الغرفة وجَلس على مكتبه. وجلس العون بجانبه ليسجّل أقوال عبد الرّحمن. نظر عبد الرّحمن إلى صَاحب الشّرطة نظرة من ينتظرُ الحكم عليه بالإعدام:

سيّدي، أقسم بالله العظيم لم أفعل شيئًا.

عبد الرّحمن، سننتظر حتّى يأتينا التّقرير النّهائي، وبعد ذلك نقرّر. عبد الرّحمن أنت أعزب أليس كذلك؟

نعم سيّدي، أنا لم أتزوّج إلى حد الآن.

ولماذا لم تتزوج؟

سيدي، ومن يَستطيع الزّواج في هذه الأيّام الصّعبة، كلّ شيء أسعاره مرتفعة، الإيجار، الفواتير، حتّى الشّمع غلا ثمنه…

ينهضُ صاحب الشّرطة، يعني أنت ضدّ سياسة الدّولة في رفع الأسعار؟

لا، لا، أقسم بالله أنّني مع الدولة في  أيّ قرار تقرّره ، فهي تعرف مصلحتنا أكثر منّا.

ممتاز يا عبد الرّحمن. أنت تعمل إذن أِمين مكتبة منذ رُبع قرن تقريبًا.

نعم ، سيّدي منذ خمسة وعشرين عامًا و ثلاثة أشهر وأسبوع.

رائع يا عبد الرّحمن، يعني أنت مطّلع تقريبًا على جميع الكُتب الفكريّة والسياسيّة وكتب المَذاهب والإيديولوجيات في المكتبة؟

سيدي، أنا مهمّتي فقط هي تأجير الكتب فقط لطَالبِيها، وكلّ ما أقرؤه هو العَناوين فقط.

أيعقل هذا، رُبع قرن ولم تَفتح كتابًا واحدا لتقرأه. فكيف تمضي وقتك في المكتبة؟

سيدي، والله العظيم  أنا لا أحبّ القراءة وأكره التّعليم، لذلك فُصلت من الثّانية ثانوي لكثرة رُسوبي، وأمضي وقتي في قراءة الجرائد.

آه، يعني أنت ملمّ بما يحدث في البلاد من خلافات سياسيّة وفكريّة.

سيدي، بصراحة أنا لا أقرأ إلاّ صفحة الرّياضة و”حظّك اليَوم” والفائزين بورقة اليانصيب.

يغضب صاحب الشّرطة ويجلس.

وعلاقتك بجَارتك هاجر؟

السّيدة هاجر مُحترمة وعلاقتي…

هي محترمة، لكنّها معك أكِيد لم تكن كذلك.

والله هي مُحترمة مَعي ومع غَيري.

يَنهض صَاحب الشّرطة غاضبًا.

لكن هناك من رآك تدخل إلى بيتها ليلاً بملابس مبلّلة وتخرج من عندها بعد ساعة وعشر دَقائق بملابس أخرى جافّة.

صحيح كَلامك سيّدي، ولكن والله العظيم لم يَحصل شيءٌ بيني وبينها.

أنا لست ضد أن يحصل بينكما أيّ شيء، فأنت أعزب وهي أرملة والمرأة بيني وبينك مازالت مثيرة. ولكن أنا ضدّ أن تكذب عليّ.

سيّدي، قل لِي ماذا تريد منّي أن أقول وسأقوله.

في هذه الأثناء يدخل أحد الأعوان يحمل الكتب والمجلاّت التي أخذوها من بيت عبد الرّحمن. يضع الكُتب على الطّاولة أمام صَاحب شرطة الفكر ويحيّيه تحيّة عسكريّة ويقول:

سيّدي، كل ما وجدناه هو بعض المجلاّت عن مشاهير الفنّانات وصور خليعة لبعض الممثلات وسييدهات لأفلام إباحيّة، أمّا الكتب فأكثرها يتحدث عن العلاقات الحَميميّة، والخُطوات الأولى للتقرّب من الأنثى.

هذا فقط، وألا يوجد مصحف قرآن بينها أو بعض الكتب الفكرية؟

سيّدي، لم نَعثر على أيّ شيء ممّا ذكرت، وهذا تقرير بذلك.

يمكنك أن تَنصرف.

ينصرفُ المُوظف ويأخذ صاحب شرطة الفِكر التّقرير ويمرّر عينيه عليه.

اجلس يا عبد الرّحمن، اجلس.

يجلس عبد الرّحمن خائفًا.

إذن هل يُمكن أن تشرح لي موضوع المُحاضرة التي ألقيتها على طلاّب الثانوية صباح يوم أمس؟  لقد كان العُنوان مثيرًا: “أنا أفّكر أنا موجود”.

سيّدي، أقول لك الصّراحة، والله العظيم أنا أيضا لم أفهم مُعظم ما ورد فيها.

أتسخر مني؟ كيف تكتب شيئًا وتُلقيه على مسامع الطّلاب وأنت لا تعرف معناه.

سيدي، في الحقيقة، أنا لم أكتب موضوع المُحاضرة، صديقي حَامد مدرّس الفَلسفة هو الذي كتبها، فعندما جَاءني مدير الثّانوية وطلب مني أن أُلقي محاضرةً على الطلاّب طلبت من صديقي حامد أن يُساعدني فكتب لي تلك المُحاضرة.

آه ، الآن فقط فهمت، لأنه مُستحيل أن تكون تلك الأفكار نابعةً من شخص مثلك.

يلتفت صاحب شُرطة الفكر إلى الموظّف:

أكتب: يتم إخلاء سبيل عبد الرّحمن محمد عبد اللاّوي وإحضار حامد عز الدّين للاِستجواب.

ينهض عبد الرّحمن ويقبّل يد صاحب الشّرطة.

الله يبارك في عمرك سيّدي، ويفتح عليك.

اسمع يا عبد الرّحمن، أنصحك أن تتزوّج بهاجر، المرأة محترمة.

أعرف ذلك سيّدي، ولكن هل تعتقد أنها ستوافق؟

أنا متأكد من مُوافقتها، غدًا فاتحها في الموضوع وستوافق.

ينصرفُ عبد الرّحمن مسرعًا وهو يلتفت خلفه وكأنّه لا يصدّق أنّه خرج دون ضرر. أمّا صاحب شرطة الفكر فنظر إليه نظرةَ تعجّب وردّد بينه وين نفسه:

أحمق، الآن فقط تأكّدت أنّه لم يحدث بينه وبين هاجر أيّ شيء، المرأة أدخلته بيتها وأعطته ملابس زوجها وغامرت بسُمعتها، وهو يسأل إن كانت ستُوافق أم لا.

 

يمكنك تقييم هذا المقال.
عدد التقييمات: 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Visit Us
Follow Me
Tweet